للمرة الأولى يتحدث مسئول أميركي عن تغيير خريطة «الشرق الأوسط» علنا وأمام جلسة استماع في الكونغرس. للمرة الأولى يربط وزير الخارجية كولن باول بين إسقاط نظام بغداد وتعديل السياسة العامة في المنطقة بدءا من العراق وانتهاء بفلسطين. الأحاديث كانت سابقا مجموعة تسريبات صحافية غير رسمية تحاول تفسير «سر» الحماس الأميركي للحرب على العراق. ولذلك كانت أقرب إلى التحليلات والاستنتاجات أكثر مما هي معلومات مؤكدة وموثقة.
الآن قال باول ما كان قبل أيام من الممنوعات، وتحدث بصراحة عن وجود سلسلة حلقات مترابطة بين الوضع القائم حاليا في بغداد وبين الاستقرار السياسي الذي شهدته المنطقة منذ السبعينات، وتحديدا بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. فمنذ تلك الحرب العربية - الإسرائيلية استقر الوضع على معادلة اللاحرب واللاسلم ودخلت المنطقة فترة مفاوضات مديدة سقفها الأعلى قرارات مجلس الأمن التي تنص على إعادة الأراضي العربية - الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم مقابل الاعتراف بحق «إسرائيل» في الوجود وإقامة علاقات طبيعية معها. ومنذ تلك الحرب خالفت «إسرائيل» كل القرارات الدولية وعاندت كل الوقائع واستمرت ثابتة في مكانها تريد السلام والأرض معا وترفض مقايضة الأرض مقابل السلام.
وجرت في تلك الحقبة (حقبة اللاسلم واللاحرب) الكثير من الأمور، منها زيارة الرئيس المصري أنور السادات «لإسرائيل» وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد في ظل انقسام عربي - عربي أضعف «الجبهة الشرقية» ومنع قيام تكتلات فاعلة تضغط على «إسرائيل» وتجبرها على الانسحاب من الأراضي المحتلة تنفيذا للقرارات الدولية.
وفي ظل تلك الحقبة اندلعت الثورة الإسلامية في إيران وسقط الشاه وطرح شعار جبهة عربية - إسلامية من غزة إلى طهران. إلا ان وصول صدام حسين إلى موقع الرئاسة في بغداد عطل إمكان تحقيق تلك الفكرة بسبب اندلاع حرب الخليج الأولى التي أحدثت شرخا في العلاقات العربية مع إيران وأسست في الجانب العربي مراكز قوى مختلفة الاتجاهات في تحديد أولويات المصالح العربية. فهناك من اعتبر قضية الخليج لها الموقع الأول من الاهتمام وبعدها تأتي قضية فلسطين. حتى ان بعض القمم العربية أعطت في قراراتها الختامية أولوية لموضوع العراق وحربه مع إيران، وجاءت قضية فلسطين والصراع مع «إسرائيل» في المرتبة الثانية. وفي أجواء التمزق العربي بين فلسطين والخليج اغتيل السادات واندفعت مصر في معركة داخلية يتجاذبها تيار ناصري (عبدالناصر) يريد من القاهرة ان تعود إلى معسكرها العربي، وتيار ساداتي يريد استكمال ما تم توقيعه في «كامب ديفيد». وانتهى التجاذب إلى استقرار سياسة الدولة على قاعدتين: ناصرية - ساداتية.
وفي ظل تلك الحقبة اجتاحت «إسرائيل» لبنان العام 1982 وصولا إلى العاصمة بيروت وارتكبت المجازر في المخيمات وطردت قوات منظمة التحرير الفلسطينية بعد حصار دام قرابة الشهور الثلاثة.
وبعد الاجتياح الذي ترافق مع انسحاب «إسرائيل» نهائيا من سيناء بدأت عودة مصر التدريجية إلى جامعة الدول العربية من الباب العراقي (الخليجي). وأدت العودة شبة الكلية إلى حصول نوع من التوازن الاستراتيجي كان من نتائجه توقف حرب الخليج الأولى على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» ونهوض مقاومة وطنية - إسلامية في لبنان وتحرك الوضع الفلسطيني الداخلي واندلاع انتفاضة مدنية ضد الاحتلال. في العام 1990 كانت «إسرائيل» في موقع الضعيف بينما تطور الوضع العربي في ظل الهدنة العراقية - الإيرانية وعودة مصر إلى جامعة الدول العربية لأفضل مستوياته منذ عقود. آنذاك كان يمكن القول إن حاصل مجموع الواقع العربي، على سلبياته الكثيرة، بدأ يميل لمصلحة الغلبة الاستراتيجية ضد «إسرائيل». وكان بإمكان الدول العربية، لو بذلت بعض الجهود وتم التنسيق بينها بشكل أفضل، ان تكسر حلقة اللاحرب واللاسلم وتجبر الاحتلال الصهيوني على الانسحاب سلما (تنفيذا لقرارات مجلس الأمن) أو حربا.
إلا انه حصل العكس. فكانت حرب الخليج الثانية (1991) التي أوقعت كارثة في التوازن العربي - الإسرائيلي وأحدثت شرخا في الجدار العربي - العربي استفادت منه «إسرائيل» ونجحت مجددا في التهرب من الاستحقاقات والالتزامات الدولية.
على اثر تلك الحرب (1991) قيل الكثير للدول العربية منها ان الولايات المتحدة ستجبر «إسرائيل» على تنفيذ القرارات الدولية وغيرها من الوعود.
الآن وبعد مرور 12 سنة لاتزال قاعدة «اللاحرب واللاسلم» قائمة في وقت تهدد أميركا العراق بحرب تدميرية جديدة بينما «إسرائيل» تهدد الشعب الفلسطيني بإعادة الاحتلال والطرد. هل يمكن الربط بين الحرب المتوقعة وتغيير خريطة «الشرق الأوسط» الذي ورد للمرة الأولى في كلام باول وبين احتمال حصول تطورات تكسر معادلة اللاحرب واللاسلم وإنتاج قاعدة جديدة للتعامل الأميركي مع الدول العربية. لننتظر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 155 - الجمعة 07 فبراير 2003م الموافق 05 ذي الحجة 1423هـ