يثير التشدد الذي يبديه حاليا وزير الخارجية الأميركي كولن باول في تعامله مع «أزمة العراق» إلى حد تفوقه على صقور الحرب في إدارة الرئيس جورج بوش المتمترسين في وزارة الدفاع والبيت الأبيض حين أعلن في رده على تقرير لجنتي التفتيش الدوليتين «أن القصة ليست في كم من الوقت الإضافي يحتاج المراقبون إلى التفتيش في الظلام، بل كم من الوقت الإضافي سيعطى العراق لإنارة الأضواء والخروج نظيفا (من الأسلحة)، والجواب هو: ليس هناك الكثير من الوقت، فإن وقت العراق لاختبار نزع سلاحه سلميا قد أخذ يقترب بسرعة من النهاية».
وقال أصدقاء باول وحلفاؤه في إدارة بوش وخارجها إن هذا التحول في لهجته جاء ليس لأسباب شخصية فقط إذ يقال إنه ساخط حقا بسبب المعارضة الفرنسية للحرب، بل أيضا لأسباب تكتيكية.
ويقول ستيفن ويلسمان إنه في الوقت الذي صمم فيه بوش على تجريد العراق من أسلحته بالقوة فإن باول لا يستطيع أن يكون وزيرا للخارجية خارج نطاق التناغم مع رئيسه.
وقال باول: «علقوا أية لافتة تريدون عليّ، فأنا مؤمن بالدبلوماسية ومؤمن كبير بإيجاد تسوية سلمية، ولكنني أعترف أيضا بأنه عندما لا يريد شخص ما تسوية سلمية ويعمل ما يتعين عليه من جانبه من أجل تسوية سلمية فإن على المرء ألا يستبعد القوة لتطبيق إرادة الأسرة الدولية، بل أيضا حماية الناس والعالم، وهو الأمر الأكثر أهمية».
وتغير موقف باول من «رجل» الصبر إلى بطل للعمل السريع وصفه مسئول في إدارة بوش بأنه «مذهل للغاية» ولكن الناس المقربين من باول يقولون انه متعمق في الاستراتيجية الباردة. ويظل باول مصمما على إقناع الأوروبيين بأن مصلحتهم الأكيدة ستكمن في النهاية في دعم الولايات المتحدة إذا قررت الذهاب إلى الحرب.
وعلى رغم الطلب الفرنسي الناري القائل إنه «ما من شيء يبرر الحرب» فإن هناك الكثيرين في إدارة بوش ممن يعتقدون أنه إذا سمح للمفتشين بأن يقوموا بعملهم خلال فبراير/ شباط فإن الفرنسيين يصطفون في النهاية إلى جانب الولايات المتحدة. وقال أحد مساعدي باول «إننا لم نتخلَ عن عملية الأمم المتحدة ولكن بالتأكيد أن حتى باول يتحدث الآن داخل الإدارة عن خيار الذهاب إلى الحرب من دون موافقة الأمم المتحدة». ومع ذلك فإن مساعدي باول المقربين مازالوا يصفونه بأنه «يشعر بقوة كما في أي وقت مضى بأن أي هجوم على العراق من دون دعم فرنسا وروسيا والصين ودول أخرى سيشكل مجازفة خطيرة في إثارة معارضة وربما اضطراب في العالم العربي».
وتقول مصادر دبلوماسية إن باول «يدرك أنه إذا لم يكن بالإمكان تجنب الحرب فيجب خوضها بدعم من الأمم المتحدة وهو يعتقد أن باستطاعته تحقيق ذلك الهدف بالتحدث عن، والتحدث، والتحدث ثانية، ولكن عليه أيضا أن يبدو شديد المراس من أجل أن يبقي صقور الإدارة على خشبة المسرح».
وعلى رغم أن المسئولين العسكريين يقولون إن القوات الأميركية ستكون مستعدة لخوض الحرب في منتصف فبراير فإنهم سيكونون أكثر استعدادا في منتصف مارس/ آذار وذلك سيعطي باول مزيدا من الوقت للعمل مع الحلفاء. ويرى كثير من أعضاء إدارة بوش أن فرنسا هي المفتاح لأنه بوجود الدعم الفرنسي لأميركا فإن روسيا والصين سيشعران على الأرجح بوضع أكثر ارتياحا في تأييد الحرب أو على الأقل عدم استخدام حق النقض (فيتو) ضد مشروع قرار يسمح باستخدام القوة العسكرية ضد العراق.
وقال مسئول أميركي إن باول ساخط أيضا من تعليقات بعض المسئولين البريطانيين، بمن فيهم السفير البريطاني لدى الأمم المتحدة جيرمي غرينستوك، الذين قالوا إن المفتشين بحاجة إلى مزيد من الوقت.
ويرى باول أن البريطانيين والفرنسيين والألمان وجهوا ضرباتهم إليه مرة واحدة. وقال مسئول أميركي إن باول يبدو أنه هادئ ودبلوماسي في العلن ولكن مساعديه قالوا إنه أبدى غضبه في دائرته الداخلية.
ويرى الكاتب في صحيفة «واشنطن بوست» غلين كيسلر أن باول الذي اعتبر لفترة طويلة بأنه المعتدل الأكثر بروزا في إدارة بوش عن العراق تحول إلى صقر في الأسبوع الماضي. وقال ان التحول في موقف باول ظهر في بياناته العلنية وفي محادثاته الخاصة مع مساعديه وان سبب ذلك ناشئ عن امتعاضه من القرار الفرنسي بمعارضة العمل العسكري ضد العراق واعتقاد بوش المتزايد بأنه لا المفتشين بل الرئيس صدام حسين قادر على تجريد العراق من أسلحته.
وأبلغ باول مساعديه في الأيام الأخيرة بأنه سيؤيد العمل العسكري حتى من دون قرار رسمي من الأمم المتحدة. وقال مسئول كبير في وزارة الخارجية إن نتيجة ذلك هي أن النقاشات التي كانت ذات يوم مريرة عن العراق بين كبار أعضاء طاقم بوش للأمن القومي والسياسة الخارجية تحولت إلى «توافق قوي في الآراء الآن، أكثر من أية مسألة أخرى».
وقد تمكن باول من الحفاظ على نفوذه في إدارة مليئة بمدافعين أقوياء عن مجابهة العراق. وقال قائد القيادة المركزية الأميركية السابق الجنرال المتقاعد انطوني زيني، وهو صديق مقرب لباول وكان ذات يوم مبعوثه للشرق الأوسط: «ربما شعر باول أننا سائرون في هذا الطريق وأنه يريد المحافظة على توجيه هذا القطار».
ويرى محللون أن من مصلحة الحكومة الأميركية، عندما تتعرض لهجوم من حلفاء مهمين مثل فرنسا أن تقدم صورة عن الوحدة داخلها، كما أنه ربما كان من مصلحتها أيضا أن تجعل العراق يعتقد أن الحرب وشيكة. وقالت رئيسة مؤسسة كارنيغي للسلام في واشنطن جيسيكا ماتيوس إن «تأكيد باول بأن عمليات التفتيش لن تكون مجدية يعتبر تغييرا مثيرا». وأضافت أن «هذه الملاحظات هي أقرب ما يكون مما رأيته خلال هذه الأشهر عن تخلي الإدارة الأميركية عن عمليات التفتيش».
وقال مسئولون في وزارة الخارجية إن الأجواء تغيرت دراماتيكيا خلال شهر يناير/ كانون ثاني، وان الرئيس صدام، في نظر باول، تخلى عن الفرص التي أتيحت له لإظهار نظام الحكم العراقي متعاونا مع عمليات التفتيش بقيامه بإحباط التحليقات الجوية وجعل الأمور أكثر صعوبة أمام إجراء مقابلات منفردة مع العلماء العراقيين. والمسألة الأكثر حسما هي قرار فرنسا الاختلاف علنا مع الولايات المتحدة قبل أسبوع من تقديم تقرير لجنة التفتيش.
وكان وزير الخارجية الفرنسية دومينيك دو فيلبان هدد باستخدام «الفيتو» ضد أية عمل عسكري وشيك على العراق، ومنذ ذلك الحين كسبت فرنسا موقف ألمانيا، رئيس مجلس الأمن لشهر فبراير، للتحالف معها ضد اي هجوم عسكري أميركي على العراق.
وقال مساعدون لباول إنه أجرى مباحثات صعبة منذ ذلك الحين مع دو فيلبان وانه توصل إلى استنتاج بأن الموقف الفرنسي - الألماني سيستمر في وضع عراقيل في وجه أي مشروع قرار في مجلس الأمن يجعل من غير المجدي تقريبا مواصلة عمليات التفتيش على أمل كسب الموافقة على عمل عسكري في موعد لاحق.
ويقول المعلق الأميركي البارز روبرت نوفاك ان باول يدرك أن هذا الوقت ليس هو الوقت المناسب للانقسام علنا والخروج على الخط المتشدد للرئيس بوش أو إعطاء العراق الانطباع عن وجود انقسام في الإدارة الأميركية. ويضيف: «إن باول يظل تحت السطح صوت التحفظ ضد أي عمل عسكري منفرد»، مشيرا إلى أن غضب باول يعود في بعض أسبابه «إلى موقف فرنسا التي منعت إقامة تحالف قوي وضمت إليها ألمانيا باعتبار نفسها خارج أي هجوم ضد العراق».
ويقال إن باول محبط أيضا مما يقول إنه تعنت نظام الحكم في بغداد «غير العقلاني» وخصوصا من جانب الرئيس صدام وابنه عدي. وقال مسئولون في بغداد الذين كان لهم اتصال مباشر وغير رسمي مع باول انهم طلبوا بعض المشورة من واشنطن عن كيفية تجنب حرب سيخسرونها. وطلب وزير الخارجية الأميركي بصورة غير مباشرة وغير رسميه أيضا اعترافات من النظام بوجود انتهاكات بشأن الأسلحة، ولكن كل ما حصل عليه هو «اكتشاف أربعة رؤوس حربية لأسلحة كيماوية فارغة».
ومع ذلك يرى نوفاك أن باول لم ينضم بعد إلى صقور الحرب في واشنطن الذين يضغطون من أجل الحرب للإطاحة بنظام حكم الرئيس صدام حسين
العدد 154 - الخميس 06 فبراير 2003م الموافق 04 ذي الحجة 1423هـ