مع بدء العد العكسي استعدادا لساعة الصفر لاعلان الحرب على العراق، يخشى الفرنسيون كما العرب المقيمون في فرنسا من تزايد حدة الانفعالات والحماس التي يمكن أن تنشأ نتيجة الحرب من قبل جمهور من المستمعين المداومين للتلفزيونات والإذاعات العربية في فرنسا، ولا سيما لحلقات النقاش السياسية المباشرة فيها والتي تفسح الأثير أمام مداخلات منها ما يحمل تطرفا في الموقف ومنها ما يثير الخلافات أو يسيئ إلى صورة العرب في فرنسا أو إلى العلاقات الثنائية بينها وبين الدول العربية التي تتبع لها هذه المحطات الإعلامية بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي فرنسا مجلس أعلى للإعلام المرئي والمسموع مهمته تنظيم الإعلام ويتمتع بشرعية مراقبتها من دون فرض الرقابة عليها. وفي حرب الخليج الثانية العام 1991 التي شاركت فيها فرنسا مع القوات الحليفة ضد صدام حسين ومن أجل تحرير الكويت، كانت القيود المفروضة على الصحافيين الفرنسيين كما على الإعلام العربي المرئي والمسموع في فرنسا في تغطيتهم للحرب تتناول فقط الأخبار التي تتعلق بالأمن القومي واحترام أسرى الحرب ، أما ما تبقى من أمور فقد كان المطلوب احترام مبادئ التعددية والنزاهة في الإعلام. لكن اليوم، وفي الوقت الذي تتجه فيه كل الأنظار إلى العراق وتتجه كل الأسلحة السياسية والدبلوماسية والأمنية والإعلامية في الدول الغربية إلى الحرب على الإرهاب ومرادفه التطرف الإسلامي، يشدد المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع في فرنسا من رصده للإعلام العربي المرئي والمسموع الموجودة محطاته على الأراضي الفرنسية. فالإذاعة، كما تقول المستشارة في المجلس الموكول إليها رصد الإعلام المسموع جاكلين دو غيلاشميدت إلى صحيفة «لوموند» الفرنسية، هي وسيلة الإعلام الأكثر انتشارا واستقطابا لردات الفعل والاستجابة. لذلك نوجه انتباهنا بشكل خاص إلى الإذاعات التابعة لطوائف معينة، فهي تستقطب جمهورا واسعا من المستمعين المغاربة ومن الشرق الأوسط من المسلمين واليهود. ولها دور كبير في التأثير على كيفية تعايش الجميع بسلم في فرنسا. غير أن وفرة من هذه الإذاعات تفتح أثيرها للكلام المباشر الحر... فينطلق البعض بحماسهم ويتفوهون بما لا يجب ويتجاوزون حدود المقبول به. لذلك لا تكتفي أجهزة المجلس الأعلى في إجراء الاستطلاعات بل تقوم بمراقبة دورية منتظمة للإذاعات بمساعدة مستخدمين مؤقتين يتقنون اللغة العربية، وذلك وفقا لاتفاق يحدد واجبات الإذاعات فيحظر «أي تدخل ذي طابع عنفي أو جنسي أو غير ذلك مما يشكل انتهاكا للكرامة الإنسانية»، ويشير إلى انه في حال صدور مثل هذا الأمر عن المستمع، فمن واجب المقدم الإذاعي مقاطعته فورا.
وفي العام 2001، وجه المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع في فرنسا تحذيرا إلى راديو اوريان «إذاعة الشرق» بسبب خطبة للجمعة بثها من مكة المكرمة «لوموند 14 ديسمبر/كانون الأول 2001»، وفي العام 2002 وجه إنذارا مشابها إلى راديو مديترانيه «اذاعة المتوسط» بسبب اقوال داعية إلى الكراهية والحقد العرقي والطائفي أدلى بها أحد المستمعين.
ومنذ ذلك الوقت يبدو أن الإذاعات العربية على الأراضي الفرنسية التزمت معظمها بما يشبه الرقابة الذاتية. فمن «إذاعة الشرق» إلى إذاعة بور أف أم، إلى إذاعة الشمس أو إذاعة المتوسط، التيقظ والحذر هما السائدان: ويكتفي الصحافيون في هذه المحطات بنقل أخبار الوكالات وتتميز تحليلات الضيوف لتطور تهديدات الحرب ضد عراق صدام حسين بالهدوء واللباقة. وتقول مديرة الأخبار في إذاعة الشرق منذ العام 2001 هدى بركات، التي تشرف على إدارة فريق مختلط فرنسي عربي من 26 صحافيا من الناطقين باللغتين العربية والفرنسية: إلى صحيفة «لوموند»: إن المسألة اليوم ليست بين معادين لصدام حسين ومناصرين له. وليس هناك في العالم العربي من يدافع حقا عن صدام، لكن ليس هناك أيضا من يوافق على الحرب ضد العراق وعلى سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش... لكن ذلك ليس بسبب فتح أثير إذاعتنا لأولئك الذين يريدون الصياح بعدائهم لأميركا. وفي برامج البث المباشر على الهواء كما على مواقع الإذاعات الطائفية العربية المخصصة للنقاش على شبكة الإنترنت، يعبر المستمعون عن استيائهم من احتمال نشوب حرب ضد العراق و عن مخاوفهم من انعكاساتها على محيطهم. فعلى إذاعة بور أف ام للمجموعة المغربية في فرنسا ينظر المستمعون إلى الحرب ضد العراق من خلال المشكلات التي تعاني منها الجزائر. وأثارت فكرة هروب صدام حسين إلى الجزائر، في 8 يناير/كانون الثاني الماضي، نقاشا حادا على موقع الإذاعة على الإنترنت.
فقال الجنرال لاماري: «أتمنى أن يكون الأمر مجرد شائعة... إذ يكفي ما لدينا من مشكلات. لكن إذا قرر الرئيس بوتفليقة إيوائه فسنرضخ للأمر». فترد نعيمة بحدة: «إنني افضل إيواء الأطفال الجائعين... لكن ايواء هذا المجرم الذي دمر بلده الذي كان اجمل بلدان العالم ، فلا»... ويرد عليها مهان بالقول: « لكن هذه الإمبريالية والعنجهية الأميركية لن توصل العالم إلا إلى المزيد من الفوضى وليس إلى الاستقرار»...
وعلى «إذاعة المتوسط»، وهي إذاعة تجارية موجهة إلى المغاربة في فرنسا، من التونسيين في معظمهم، فيقول مستمع في برنامج بث مباشر عن الصور التي نشرها التلفزيون الفرنسي عن المظاهرات الرافضة للحرب ضد العراق: هل شاهدتم صور المظاهرات في فرنسا ضد الحرب على العراق؟ هل لاحظتم أن العرب فيها قلة؟ يا للعار! وماذا يفعل طلابنا وشبابنا؟. نحن لا نؤيد أية طاغية في العالم العربي.
لكننا نعرف جيدا أن ذلك ليس هو السبب الذي يدفع الأميركيين للهجوم عليه. أما «إذاعة الشمس» فهي تفتح أثيرها للمهاجرين المغاربة الذين يعبرون من خلالها عن مخاوفهم وانتقاداتهم. وفي برنامج بعنوان ديوان عجز مقدم البرنامج عن فرض موضوع حلقته «العنف ضد النساء والأطفال في المجتمع العربي المعاصر» للنقاش إذ أن بعض المستمعين تجاوز الموضوع ليتحدث عن العنف النفسي الذي يواجهه العرب من قبل وسائل الإعلام الغربية فقال: «كل يوم في كل صباح، يتحدثون عن العرب والإرهاب وعن المسلمين الذين يملكون أسلحة دمار شامل. لم يعد يمكننا الاستماع إلى أخبار عادية وكأنما لم يعد هناك سوى العرب والمسلمين في العالم».
حتى حمال الأمتعة الصقوا به تهمة الإرهاب وكل علل العالم! هذا هو العنف الحقيقي.
فلم يكن أمام المقدم إلا القول لمقاطعته: «أننا نمر في مرحلة صعبة إلا أن معركتك ستكون لصالح الأجيال المقبلة من بعدك».
لكن ما يصح على الإذاعات، لا ينطبق على التلفزيونات. ففي حال نشوب حرب مع العراق يدرك المجلس الأعلى صعوبة مراقبة شاشات التلفزة فمنذ 1991 برزت قنوات تلفزيونية عربية كثيرة للأخبار على مدى الساعة يمكن التقاطها على الأراضي الفرنسية ولكنها غير موجودة فيها وبالتالي فمن المستحيل مراقبتها أو مراقبة جمهورها من المشاهدين كما من المشاركين
العدد 154 - الخميس 06 فبراير 2003م الموافق 04 ذي الحجة 1423هـ