تشهد الساحة السودانية برمتها، شمالا وجنوبا، حكومة ومعارضة، «انقاذا» و«قرنق» منذ مطلع يناير/ كانون الثاني الجاري استقطابا حادا بين محورين اقليميين، هما: «الايقاد» و«المبادرة المصرية - الليبية»، الأول افريقي، والثاني يراد له ان يكون عربيا، أما دوليا فإن القطب العالمي الآحادي - وهو الولايات المتحدة الأميركية - فيرجح المحور الافريقي «الايقاد» وبمعيتها بريطانيا.
ما قبل يناير الجاري كان المحور الافريقي/ الأميركي/ البريطاني مهيمنا بالكامل على المباحثات التي تجرى بين حكومة «الانقاذ» والحركة الشعبية لتحرير (كل) السودان بقيادة العقيد «جون قرنق»، والتي عرفت بمباحثات (مشاكوس) في كينيا، التي استهلت جلساتها مطلع يوليو/ تموز 2002 ثم تواصلت جولاتها «ثانية» في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 ثم «ثالثة» بتاريخ 23 يناير 2003.
في الظاهر تجسد مباحثات مشاكوس المحور الافريقي «الايقاد»، وأقول «في الظاهر فقط» لأن هذه الايقاد قد طرحت دورها من دون ان يستجاب إليها فعليا منذ عقد من الزمان، وذلك حين صاغت في سبتمبر/ أيلول 1994 ما عرف «بإعلان مبادئ» لاستهلال المباحثات بين نظام الانقاذ وحركة قرنق. ولم توافق الانقاذ على إعلان المبادئ إلا بعد ثلاث سنوات أثناء اجتماعات قمة نيروبي لرؤساء المنظمة بتاريخ 11 يوليو 1997، ثم بعد أربعة أعوام أعلن نائب الرئيس السوداني «علي عثمان محمد طه» ان «الايقاد» (غير مؤهلة) لتحقيق السلام وذلك بتاريخ 6 أغسطس/ آب 2001.
ولكن ما ان عينت واشنطن السناتور السابق «جون دان فورث» بعد شهر واحد من هذا التصريح، إذ تم تعيينه بتاريخ 6 سبتمبر من العام نفسه 2001، حتى أصبحت «الايقاد» (مؤهلة) وساقت الطرفين إلى «مشاكوس» في يوليو 2002 بعد ان عقدت أميركا اتفاقا بين الانقاذ وقرنق على «جبال النوبا» في سويسرا بتاريخ 19 يناير من عام مشاكوس نفسه 2002، وبعد شهرين فقط من مباشرة «جون دانفورث» مهمته الرئاسية في الخرطوم في نوفمبر/تشرين الثاني 2001.
إذن، فقد صدق نائب الرئيس السوداني «علي عثمان طه» - في هذه - فالايقاد غير مؤهلة منذ العام 1994 إلى ان وصلت أميركا، فأهلتها ولكن «مجرد مظلة افريقية».
ثم أصبح واضحا ذلك «التناغم» بين أجندة قرنق وأجندة «واشنطن» عبر «انحياز» الايقاد لمشروعات قرنق فيما يتعلق باقتسام السلطة والثروة، ثم اقتسام السودان نفسه جغرافيا وبشريا بعد ان أدرجت «الايقاد» في جدول المباحثات مناقشة المناطق الثلاث المجاورة للجنوب في الشمال وربطها بمسار المفاوضات و«تمثيل» حركة قرنق لها، وهي مناطق (جبال النوبا) و(الانقسنا) و(آبيي). وقد أقر «الانقاد» فعلا بمشروعية تفاوض حركة قرنق عن «جبال النوبا» حين وقع معه اتفاق سويسرا في 19 يناير 2002. ثم ترأس قرنق مؤتمرا عاما داخل هذه الجبال. ثم عقد قرنق مؤتمرا ثانيا «للانقسنا» واكتفى الانقاذ بإظهار «استنكاره» ولم يحل دون عقد المؤتمر الذى حضره ما يربو على أربعمئة ممثل لمختلف الهيئات، علما بأن منطقة عقد المؤتمر - فيما يروج «الانقاذ» - أرض خاضعة للخرطوم. أما منطقة (آبيي) فهي منطقة تداخل بين قبائل «دينكا نجوك»، وهم من فروع قبيلة قرنق الرئيسية (الدينكا) وقبائل «البقارة» ليس قرنق بحاجة إلى عقد مؤتمر مماثل فيها.
هذا الدفع الذي يدفع به قرنق هو دفع أميركي واضح، نظرا إلى تناغم الأجندة بين واشنطن وقرنق، غير ان الانقاذ يوجه التهمة إلى «الايقاد» بوصفها «منحازة» لقرنق، وليست الايقاد - كما أوضحنا - سوى مظلة، وهي فعلا منحازة لقرنق ولكن بدعم أميركي مباشر.
ويتأكد هذا الدعم الأميركي برضوخ «الانقاذ» لإنذار أميركي باسم أطلقه «جون دانفورث» في الخرطوم حين أعلنت الانقاذ رفضها حضور الجولة الثالثة (الراهنة) إذا تضمنت الأجندة بحث مستقبل المناطق الثلاث. إذ صرح «دانفورث» بأن رئيسه «بوش» ينتظر منه تقريرا خلال ثلاثة أشهر فقط عن مسار المباحثات وإلا فإن واشنطن ستطبق على السودان العقوبات «الحربية» التي ينص عليها «قانون سلام السودان» الذي أجازه الكونغرس الأميركي والذي يعامل السودان باعتبارها دولة «إرهابية» و«منتهكة لحقوق الانسان». وفي النهاية بمنطق «الدولة الفاشلة» التي يجب اسقاط نظامها. أما «المخرج» فهو إحراز تقدم في مباحثات كينيا.
هكذا تابع نظام الانقاذ مسيرته «مكرها» نحو كينيا، وللبحث في الأجندة التي أعلن رفضها.
ولكن الانقاذ في مأزق
الوجه الأول للمأزق ان مضي الانقاذ تحت طائلة استرضائه لأميركا إلى نهاية الأجندة مع قرنق فذلك يعني مناصفة قرنق للانقاذ مناصفة دستورية على مستوى «السيادة» جغرافيا وديموغرافيا، وعلى مستوى «الثروة» وعلى مستوى «السلطة السياسية».
وهذه «المناصفات الثلاث» تعني - من دون انفصال - «تحجيم الانقاذ» في مقابل «تمدد قرنق».
وهذا يعني «مشاركة قرنق» في «اتخاذ كل قرار» بحكم ان «الانفصال» غير مطروح، لا من قبل أميركا ولا قرنق ولا «الانقاد». فالكل يؤمن على «وحدة السودان» ولو بمنطق نظامين في دولة واحدة أو «كنفيدرالية معدلة».
هذه المناصفة الثلاثية بكل تبعاتها هي «مأزق الانقاذ» الآن.
أما الوجه الثاني للمأزق فهو في حال ان رفض الانقاذ أجندة قرنق المدعومة أميركيا، فهناك تطبيق قانون الحرب الأميركية عليه باسم «قانون سلام السودان»، وقد نالت الصواريخ الأميركية من «مصنع الشفاء» في قلب الخرطوم - من قبل - في أغسطس 1998، والآن القاعدة الأميركية في (جيبوتي) ليست بعيدة، وهناك معارضون مسلحون في ارتريا تحت مظلة «التجمع الوطني الديمقراطي» قوامهم تسعة آلاف مقاتل بقيادة الأمين العام للتجمع وهو من أركان حركة قرنق العسكريين واسمه «باقان آموم».
القائد «باقان آموم» عقد اجتماعات مطلع هذا الشهر مع الخارجية الأميركية في واشنطن، وبدعوة منها وشاركه في الاجتماع (حاتم السر) وهو أمين الإعلام في التجمع، و(شريف حرير) أمين التنظيم والإدارة، و(برنابا) وهو أمين الشئون الخارجية.
ذهب هؤلاء الأربعة إلى واشنطن «ليهيئوا أنفسهم» للانذار الأميركي الموجه إلى حكومة الانقاذ والذي تنتهي مدته في ابريل/ نيسان من هذا العام 2003.
و«الانقاذ» يعلم ذلك... إذن هذا هو الوجه الثاني للمأزق.
الاستغاثة بالعرب
والمبادرة المشتركة
المبادرة المصرية - الليبية مثلها مثل الايقاد، لا وزن لها من دون تفصيل حقيقي، فهذه المبادرة التي تسمى «المشتركة» قد ظهرت إلى الوجود لدى اجتماع الرئيسين المصري «مبارك» والليبي - الزعيم - القذافي في مرسى مطرح في الثاني من أغسطس 1999، وأريد لها ان تكون «مظلة عربية» موازية لمظلة الايقاد الافريقية.
صدرت تلك المبادرة في خمس بنود أهمها تهيئة المناخ السياسي لعقد مؤتمر وطني «جامع» يشمل قوى المعارضة والانقاذ مع الدعوة إلى قيام «حكم انتقالي» تعقبه انتخابات عامة.
هذان بندان، ولكن الأخطر هو بندان آخران صدرا عن «المشتركة» في أغسطس 1999 ثم تم التراجع عنهما جذريا وحذفهما مطلع شهر يوليو 2001، أي بعد سنة واحدة فقط، وهما (حق تقرير المصير للجنوب) و(التواصل مع دول الجوار الافريقي) بما يعني «الايقاد».
فالمشتركة طرأ عليها حذف ولا أقول تعديلا في أهم بندين، غير ان أميركا قلبت الطاولة بعد شهرين فقط من هذا الحذف اثر تعيين «جون دانفورث - 6/9/2001» وأعطت «كل» الاعتبار لحق تقرير المصير ولمنظمة الايقاد.
في تلك الأجواء كان النظام السوداني قد حسم معركته الداخلية مع شيخه «الترابي» فاحتسبت مصر وليبيا ذلك في صالحه، وتم التقارب معه في مقابل حذف البندين المذكورين، وأكدت القاهرة للخرطوم ان الانقاذ لم يعد في موقف الضعف الذي فرض عليه القبول بالمبدئين، ليس في مفاوضات الايقاد السابقة ومن قبل تدخل أميركا فحسب ولكن حتى بالنسبة إلى ما أبرمه الانقاذ من «اتفاقين» مع فصائل جنوبية ينصان على البندين المحذوفين، الاتفاق الأول مع رياك مشار بتاريخ 21 ابريل 1997 والثاني مع لام أكول بتاريخ 20 سبتمبر من العام نفسه (1997).
فإثر حذف المشتركة لهذين البندين والأجواء التي أحاطت بتقارب الانقاذ مع النظامين المصري والليبي ترك مشار منصبه حين كان رئيسا لمجلس تنسيق الجنوب ومساعدا لرئيس الدولة وأعلن في نيروبي توحيد قواته - وهي ثاني أكبر قبيلة في السودان بعد «الدينكا» وتسمى النوا - مع قوات قرنق بتاريخ 8 يناير 2002، في حين استقال لام أكول وينتمي الى ثالث أكبر قبيلة جنوبية وتسمى «الشلك» عن منصبه باعتباره وزيرا للمواصلات ولكنه اختار المعارضة من الداخل فأنشأ «حزب العدالة والتنمية» من اثنين من الوزراء المستقلين أيضا، وهما مكي علي بلال وأمين بناني.
غير ان المسيرة فرضت نفسها باتجاه أجندة أميركا/ قرنق/ الايقاد فمادت الأرض بنظام الانقاذ من جديد، لا يدري أيسير مع المشتركة؟ أم يسير مع الايقاد ويتخذ من المشتركة ورقة ضغط ليس إلا؟!
يرى الانقاذ ان انقاذ نفسه ربما يرتبط على نحو ما بالمشتركة، ولكن ما فعاليتها؟ وبالذات حين تكون المواجهة مع واشنطن وليست مع دول الايقاد المتخلفة التي تعاني من مشكلات لا تقل عن مشكلات السودان نفسه.
كل ما يريده الانقاذ من المشتركة هو «الاسعاف»، وتخفيف «القضاء الأميركي» وليس «رده المستحيل» في علم النظام نفسه.
في هذا الإطار يراد للمشتركة «الثنائية» مصريا وليبيا ان تصبح «عربية». وبهذا المنطق والهدف سعى الانقاذ إلى «قمة بيروت» العربية المنعقدة في مارس/ آذار 2002 حين طرحت الجامعة العربية ضرورة إنشاء «صندوق تنمية جنوب السودان» برصيد قدر بحوالي 450 مليون دولار... ولكن لم يصل منه دولار واحد بعد.
ثم استيقظت الجامعة العربية على «استغاثات» الانقاذ وهو يغرق في مشاكوس، فقررت ان يكون لها مبعوث كما لأميركا مبعوث، واختارت نادية مكرم عبيد التي استهلت نشاطها بتأكيد «أهمية دور» زعيم التجمع الوطني الديمقراطي ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد عثمان الميرغني! وهو على علاقة «تقليدية» بمصر، وأتت هذه الإشادة به في آخر تصريحات نادية عبيد من مقر جامعة الدول العربية في القاهرة بتاريخ 23 يناير 2003 ولكنها - أي نادية عبيد - أشادت في الوقت ذاته بنزاهة «أميركا».
وفي شهر يناير هذا شهدت الخرطوم اجتماعات لوزراء عرب لتفعيل «دور الصندوق»، أما في مطلع الشهر فقد اصطحب الرئيس البشير الوزراء العرب للاحتفال بعيد استقلال السودان (1/1/1956) في مدينة «ملكال» عاصمة أعالي النيل في الجنوب حيث النفط، ولطمأنتهم على وجود الانقاذ في «جنوب السودان».
ترى: لماذا أشادت نادية عبيد بنزاهة أميركا وفي الوقت نفسه بدور الميرغني؟ ثم لماذا ذهب تجمع الميرغني إلى كينيا ليكون على مقربة من مباحثات الجولة الثالثة التي بدأت بإكراه أميركي للانقاذ بتاريخ 23 يناير 2003.
الأجوبة لا تحتاج إلى كثير من الجهد في التفكير، فغاية ما تسعى إليه «المشتركة» هو ان تحافظ أو تحفظ أميركا لمصر بعض ما لدى مصر من مصالح استراتيجية في السودان، وعلى رأسها مياه النيل. وان تحفظ للانقاذ نوعا من «الاستمرارية» في إطار «المناصفة الثلاثية» التي ذكرناها تحديدا، أما الانفصال فإنهم يدركون جميعا انه غير وارد، وحتى إذا كان الانفصال واردا في ذهن قرنق من قبل وهو يحارب في الجنوب فقط، فإنه غير وارد قطعا الآن وقد وضع يده على نصف جغرافية وديموغرافية السودان الذي يريد تحريره «كله» - (حركة تحرير شعب السودان) وفق بيانه في العام 1983.
المتقدم جوا الآن هو قرنق الوحدوي ببرنامج «السودان الإفريقي الجديد»، وبداية من «المناصفة الثلاثية» وتحت «مظلة أميركا» وليس «الايقاد»، ولم تفعل المبادرة «المشتركة» إلا بإرسال نادية مكرم عبيد، ولم يصل السودان دولار واحد من «صندوق تنمية جنوب السودان»، والميرغني نفسه ذهب إلى كينيا وحتى من دون دعوة فيما وصل الى «اسمرا» قادة التجمع الوطني الديمقراطي المعارض بعد «تفاهمهم» مع الخارجية الأميركية في واشنطن.
مشكلة الانقاذ الحقيقية
المشكلة الحقيقية ان الانقاذ وفي كل حساباته المتجهة به إلى الايقاد وأميركا، أو إلى المشتركة والعرب، انه يضع نصب عينيه «تأمين سلطته» بمنطق «إمارة ولو على حجارة».
فالانقاذ إذ يسلك كل هذه الدروب لم يدرك بعد منذ محاولاتي معه في مطلع 1997 وإلى اليوم، ان مخرجه في «مكان واحد» وفي «بلد واحد»، ولدى «رئيس واحد» هو الأكثر حرصا على «وحدة السودان» وعلى «التكامل الاستراتيجي معه» وقد دفع بقوات بلده من قبل إلى التصدي لقوات قرنق في أغسطس 1990، ولم يثبت الانقاذ وقتها سلطته بعد انقلابه في 30 يونيو/ حزيران 1989.
هذا البلد وهذا الرئيس يستعديهما الانقاذ، ويضع يده في يد خصومه، بل ويحاول تجزئة هذا البلد، ويتواطأ بفتح حدوده ضده، ويأوي معارضيه «عيانا بيانا» فيدفعه إلى تبني المواجهات العسكرية وربما إلى تنفيذ انذار «جون دانفورث» الذي أمهل الانقاذ فترة تنتهي في ابريل 2003.
أما الشرط الوحيد فهو «خروج المنظمة» التي تسببت في كل تلك الكوارث من «داخل النظام»، فإذا كان شرط قرنق هو تحرير «كل» شعب السودان، فإن الشرط الآخر، والأكثر وطنية هو تحرير «النظام» من «المنظمة» وتبعا لما فصلت في صحيفة «الحياة» (هل النظام في السودان دولة أم منظمة؟! - العدد 12358 - تاريخ 27/12/1996)
العدد 154 - الخميس 06 فبراير 2003م الموافق 04 ذي الحجة 1423هـ