ليس مهما الآن الدخول في نقاش يفصِّل خطاب وزير الخارجية الأميركي كولن باول أمام مجلس الأمن. مسألة التشريح لا قيمة لها حين تدخل القوة المجردة من العقل مساحة السياسة. الخطاب يقول ان الولايات المتحدة تملك معلومات ولا تملك الدليل. والمعلومات التي لا تريد واشنطن كشف مصادرها تعتبرها إدارة البيت الأبيض كافية لإعلان الحرب. إنها كافية لإدانة صدام حسين، وأيضا تلك الدول الكبرى المعترضة على الحرب. فالمعلومات المجمعة من مصادر مختلفة، منها القديم ومنها الجديد، ومنها المؤكد ومنها الافتراضي، كلها باتت عناصر اتهام تدين العراق بخرق القرار الدولي 1441. أي أن المعلومات ليست بحاجة الى تأكيد وأدلة، وكذلك ليست بحاجة الى قرار دولي جديد. فالولايات المتحدة، كما تقول مراكز قرارها السياسي، إنها أصبحت حرة في اختياراتها. فهي تستطيع الذهاب الى الحرب الآن وساعة تشاء ومن دون العودة مجددا الى مجلس الأمن، وهي أيضا تستطيع إذا شاءت العودة الى مجلس الأمن إذا تجاوبت الدول الكبرى معها ووعدت بعدم استخدام حق النقض (الفيتو). وفي حال استخدمت فرنسا ذلك الحق، مثلا، فإن واشنطن غير ملزمة لأن «الخرق المادي» برأيها حصل أصلا وتستطيع التصرف في ضوء القرار السابق.
كلام باول في مجلس الأمن هو من نوع البلاغات الحربية التي تعلن أمام العالم المبررات التي تراها دولته موجبة للقتل أو على الأقل لحماية مصالحها من خطر مقبل. وباسم احتمال اقدام نظام العراق على تطوير أسلحته مستقبلا ترى واشنطن أنه لا بد من قطع دابر الاحتمال حتى لو كان الآن مجرد فرضية لا أدلة ملموسة تؤكدها.
نحن ذاهبون إلى الحرب. هكذا قالت أميركا للعالم. نحن ذاهبون سواء اقتنع العالم بمبرراتها وأدلتها ومعلوماتها أو لم يقتنع. نحن ذاهبون بناء على قراءات وليس قرارات سواء وافق العالم على سياستنا أو لم يوافق.
ماذا تستطيع دول العالم الكبرى ان تفعل أمام هذه الرغبة الجامحة بالحرب؟
بريطانيا موافقة بل تزايد أحيانا وتقول إن نصف أوروبا معها وإن الحرب يمكن ان تقع من دون ضرورة للعودة الى مجلس الأمن. روسيا مترددة فهي مع الحرب إذا قدمت واشنطن الأدلة على معلوماتها وأعطت فرصة لفرق التفتيش للبحث عن تلك الأدلة وبناء على المعلومات التي قدمها باول. وموسكو لن تعترض على حاجة أميركا إلى الحرب في حال قررت خوضها من دون أدلة ومن دون قرار جديد يصدر عن مجلس الأمن. الصين كذلك انها قريبة من الموقف الروسي. فهي تميل الى اجتناب الحرب وتفضل تجديد الرهان على الدبلوماسية وإعطاء فرصة أخرى لفرق التفتيش للتأكد من صحة معلومات الولايات المتحدة. ولكن بكين في النهاية لن تستطيع ترجمة اعتراضها الى خطوات مادية ملموسة. فإذا أرادت واشنطن الحرب فإنها لن تقاتلها من أجل دولة نائية في «الشرق الأوسط».
فرنسا هي العقدة، فالرئيس جاك شيراك ليس مترددا. إنه بكل وضوح ضد الحرب إذا لم تتوافر الأدلة الكافية لقيامها. وهو لن يعطي صوت فرنسا من دون ان يكون لباريس دورها في صوغ مستقبل «الشرق الأوسط»، وهو سيستخدم حق النقض (الفيتو) في حال أصرت الولايات المتحدة على استصدار قرار يلبي رغباتها الحربية من دون مبرر شرعي وقانوني. ذلك وان الموقف القانوني لا يعني ان فرنسا ستمنع أميركا من الذهاب الى الحرب في حال قرر اشرار الحزب الجمهوري خوضها مهما كانت الاعتبارات والنتائج المترتبة عليها. فرنسا تملك سلطة الاعتراض في مجلس الأمن لكنها غير قادرة على ترجمة اعتراضها ميدانيا، ففرنسا مع مصالحها في النهاية وليست مع العراق. إنها تحاول الدفاع عن مكانتها الدولية وسمعتها السيادية في أوروبا أولا وبعدها تأتي كل دول العالم الثاني أو الثالث. قد لا تشارك فرنسا في الحرب ولكنها بالتأكيد لن تقف في مقاعد المتفرجين تراقب النتائج التي تصنعها أميركا على الأرض. فرنسا لا شك ستتحرك، كذلك الصين وروسيا وألمانيا، ولكن تحركاتها لن تكون لمنع الحرب أو للدفاع عن العراق بل لحماية مصالحها وحصصها من مستقبل لا تعرف ملامحه ولكن واشنطن مصرة على تغيير معالمه.
إذن انها حرب قراءات وليست حرب قرارات. باول قرأ المعلومات في خطابه وردت عليه الدول الكبرى بقراءات مختلفة بعض الشيء ومتفقة في أشياء. إلا أن مجموع ما قيل هو مجموعة قراءات سياسية لا ترتقي الى مستوى القرار. فالقراءات أقرب الى التكهن وفيها الكثير من الإرادة والقليل من الأدلة. وحين تطغى الإرادة على العقل ويصبح العزم على القتال أهم من مبرراته تتراجع إمكانات القوى الضعيفة والمعترضة على المنع أو الإلغاء. كان الله في عون شعب العراق وشعوب المنطقة.
وليد نويهض
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 154 - الخميس 06 فبراير 2003م الموافق 04 ذي الحجة 1423هـ