عملت حركة الاستشراق على قراءة التراث الفلسفي الاسلامي قراءة ارجاعية، تحيل كل مفردة فيه إلى أصول خارج دائرة الحضارة الاسلامية، وبالذات إلى الفلسفة اليونانية، فمثلا يصرح المستشرق ت. ج. دي بور، في كتابه (تأريخ الفلسفة في الاسلام) بأن الفلسفة الاسلامية ظلت «على الدوام فلسفة انتخابية، عمادها الاقتباس مما ترجم من كتب الاغريق، ومجرى تأريخها أدنى أن يكون فهما وتشرّبا لمعارف السابقين، لا ابتكارا، ولم تتميز تميزا يذكر عن الفلسفة التي سبقتها، لا بافتتاح مشكلات جديدة، ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المسائل القديمة، فلا نجد لها في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها لها... ونكاد لا نستطيع أن نقول ان هناك فلسفة اسلامية بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، ولكن كان في الاسلام رجال كثيرون لم يستطيعوا أن يردّوا أنفسهم عن التفلسف... ولندع الآن رد كل فكرة من أفكارهم إلى أصلها الذي انحدرت منه، تاركين هذا المبحث قائما بذاته...».
وتصدر هذه الرؤية عن موقف عنصري، يقوم على اعتبار الجنس السامي، يمثل تركيبا أدنى للطبيعة البشرية، ولذلك فهو غير جدير بالابتكار والابداع، في أي منحى من مناحي التفكير، لا سيما التفكير الفلسفي، الذي يتطلب مستوى متطورا من العقل البشري.
لقد كرّست الكثير من الكتب المهتمة بتأريخ الفلسفة هذه الرؤية ولم يتحرر من هيمنة هذه الرؤية عدة أجيال من المستشرقين، الذين ظهروا في القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، ولعل المستشرق الفرنسي المعروف (رينان) هو أول من عبّر عن هذه الرؤية بصراحة في كتابه (تأريخ اللغات السامية» إذ يقول: «أنا أول من عرف أن الجنس السامي، إذا قوبل بالجنس الهندي الأوروبي، يعتبر حقا تركيبا أدنى للطبيعة الانسانية...».
وعلى هذا الأساس قدّم رينان رأيه المشهور، باعتبار الفلسفة الاسلامية ليست إلاّ اقتباسا وتقليدا بحتا للفلسفة اليونانية، في كتابه (ابن رشد ومذهبه)، قائلا: « ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسا فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع ان يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتها، لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين، إلاّ اقتباسا صرفا جديبا، وتقليدا للفلسفة اليونانية».
ثم جاء بعد رينان آخرون ذهبوا مذهبه هذا، على تفاوت في مواقفهم بين غالٍ ومعتدل، ومن أبرز هؤلاء المستشرق الفرنسي ليون جوتييه، الذي ذهب إلى: «ان أقل المتوسمين أو الملاحظين، يستطيع من أول الأمر، أن يكشف اختلافات في النواحي المتعددة، بين الجنس السامي والجنس الآري، فالزائر الأوروبي لبلد من البلاد العربية يتبين بأدنى نظر مفارقات كثيرة، تقوى وتشتد حتى تصل إلى التعارض الحاد، وتظهر بوضوح بمجرد المقارنة السريعة بين شئون البيئة السامية التي وصل إليها، وشئون البيئة الغربية التي يعيش فيها... وما قلناه عن عرب الجزائر ينطبق على سائر الشعوب من الجنس نفسه، انهم تقريبا سواء في أعماق نفوسهم، ويبدون مناقضين في جميع النواحي الجوهرية للجنس الآري، بل انهم وهذا الجنس يكونون تقابلا حيا في التفكير».
ثم يؤكد المستشرق جوتييه تفوق العقلية الآرية على العقلية السامية، موضحا ان: «العقلية السامية تميل إلى قرن الاشباه والأضداد، من دون ربطها بما يجعل منها وحدة، بل تتركها منفصلا بعضها عن بعض، ثم تنتقل من احداها إلى الأخرى - من دون واسطة - بوثبة فجائية. أما العقلية الآرية فالأمر بالعكس، إذ أنها تنزع إلى الربط بين هذه وتلك بوسائط متدرجة، فلا تنتقل من طرف إلى آخر إلاّ بدرجات تكاد لا تكون مُحسا بها بالقدر الممكن، انها تسير على نظام الألوان المذاب بعضها في بعض... وإذا فلنسهم بالمذهب المفرّق العقلية السامية، العقلية العربية، التي تترك الضدين مفترقين لا صلة بينهما، ولنسم بالمذهب المجمع أو الموحد العقلية الآرية، التي تجمع بين الأضداد في وسائط متدرجة متوالية، وتجمعها في كل واحد...». لكي تتضح لنا محددات هذه الرؤية بجلاء، لابد من ربطها بمكوناتها المنهجية في داخل الفكر الأوروبي عموما، وصورة الاسلام والتراث الاسلامي في هذا الفكر خصوصا، تلك الصورة تشكلت في سياق الصراع الحضاري التأريخي المستمر بين الاسلام والغرب، وما نتج عنه من رواسب دفينة تراكمت مع مرور الأيام، وظلت تؤسس للنزعة العدوانية ازاء التراث الاسلامي في الوعي الغربي.
وعلى هذا الأساس لم تنفك المؤلفات التي أرخت للعلوم الاسلامية، والفلسفة منها بالذات، من هيمنة هذه الرؤية، عندما أحيلت على حكم مسبق، يقوم على عجز الانسان المسلم عن الابتكار والابداع، ولذلك عملت على ارجاع كل معطيات العقل الاسلامي إلى خارج موطن الحضارة الاسلامية، واختزال عناصر الأصالة كافة فيها، واجتزاء كل جديد جاء به المسلمون، واقتطاعه من الكل الذي ينتمي إليه، واقصائه إلى منظومات فكرية أخرى، تنتمي في النهاية إلى أوروبا، وتقويم تجربة الابداع العظمى في العلوم الاسلامية، باعتبارها، لا تتجاوز دور الشرح والتعليق في أفضل الأحوال، وإلاّ فإن الوظيفة الوحيدة للعقل المسلم، انما هي باعتباره ساعي بريد، أو واسطة بين التراث اليوناني القديم وأوروبا في العصور الوسطى.
وعلى هذا اعتبرت الفلسفة الاسلامية، مجرد واسطة بين الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، بل ان اهتمامات الاستشراق بالفلسفة الاسلامية وتأريخها، انما جاءت محاولة أخرى لمواكبة حركة الفلسفة الأوروبية، ومتابعة أدوارها التأريخية، حين اغتربت عن أرضها فترة من الزمن، ثم عادت تواصل مشوارها في داخل الأرض التي أبدعتها، ولذلك يعود اهتمام المستشرقين بالفلسفة الاسلامية، إلى متابعة مسار تأريخ الفلسفة الأوروبية، واكتشاف أدائها وتأثيراتها في خارج أوروبا، كما يقول المستشرق الفرنسي دي بور، ان: «الفلسفة ظاهرة فريدة مستقلة، نشأت في بلاد اليونان... ولتأريخ الفلسفة في الاسلام شأن أيضا، لأنه يرينا أول محاولة للتغذي بثمرات الفكر اليوناني...».
وهو ما جهر به مواطنه المستشرق رينان من قبل حين ذهب إلى أنه: «من الخطأ وسوء الدلالة بالألفاظ على المعاني أن نطلق على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية لفظ (فلسفة عربية) مع أنه لم يظهر لهذه الفلسفة في شبه جزيرة العرب مبادئ ولا مقدمات، فكل ما في الأمر انها مكتوبة بلغة عربية...».
لقد ظلت هذه العقدة مستحكمة في مؤلفات الاستشراق حول تأريخ الفلسفة الاسلامية حتى مطلع القرن العشرين.
ويمكننا اكتشاف حضور واضح لرؤية الاستشراق بشأن الفلسفة الاسلامية، في أعمال الفلاسفة الأوروبيين أنفسهم، فقد جزم هيغل منذ حين على: «أن الشرق لم يشهد الفلسفة، لأنه لم يعرف المفهوم».
ولم يشأ الفلاسفة الذين جاءوا من بعده، ان يفلتوا من أسر هذه الرؤية، فيعترفوا ولو بشيء من التراث الفلسفي الواسع، الذي خلّفه العقل المسلم، وقد احتضن هذه الرؤية أبرز الفلاسفة الأوروبيين المعاصرين، مثلما فعل الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز، وصاحبه المحلل النفسي فليكس غتاري، في كتابهما: «ما هي الفلسفة؟» الصادر في باريس العام 1991م.
فقد استبعد دولوز وصاحبه التجربة الفلسفية عند المسلمين، وتجاهلا معطيات هذه التجربة، وكأنه لم تكن هناك في تأريخ الفلسفة أسماء لفلاسفة عظام، ولا أية انجازات متميزة لهم.
ولم يزل فلاسفتنا يتعرضون لنفي واقصاء في المناهج الدراسية الغربية، كما يقول الاستاذ علي حرب: «نعم أنا أعرف أن فلاسفة العرب لا يدخلون في برامج التدريس في الغرب، لا في الثانويات ولا في الجامعات، على عكس ما هو عندنا خصوصا في لبنان، حيث ندرس أعلام الفلسفة من أفلاطون حتى سارتر...».
ومن المؤسف أن يقع بعض الباحثين في ديارنا تحت تأثير هذه العقبة، فيعمد إلى تبني الرؤية الاستشراقية، ويستعير المعايير والأحكام التي فرضتها حركة الاستشراق، فيقرأ التراث الفلسفي الاسلامي في سباق التراث الفلسفي اليوناني، ولا يتوخى الموضوعية والدقة في دراسة هذا التراث، وتصنيفه في اطار منظومة العلوم الاسلامية، كي يصل إلى اكتشاف ابداعات العقل المسلم، وما أنجزته الحضارة الاسلامية من مكتسبات هائلة في حقول المعرفة الانسانية كافة.
ان التحرر من سلطة المعرفة الاستشراقية، والافلات من أحكامها المسبقة الجاهزة، شرط أساسي لأية محاولة علمية جادة للتعرف على اسهامات الفلاسفة المسلمين في اثراء وتخصيب وابتكار نظريات ومقولات وأفكار فلسفية مهمة، اغتنت بها مسيرة الفلسفة الانسانية.
لقد أكد بعض الباحثين في الفلسفة الاسلامية عندنا، على أن الفلسفة الاسلامية انتهت بوفاة ابن رشد، إذ اندثر بوفاته التفلسف، وأقفلت الفلسفة أبوابها، فيما ذهب آخرون مذهبا آخر حين زعموا انها انتهت قبل ذلك، أي حينما ألف الغزالي كتابه (تهافت الفلاسفة)، الذي كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على الفلسفة في الاسلام، فأقبرتها إلى غير رجعة.
وربما لا نعثر على أحد ممن أرّخ للفلسفة الاسلامية، قد تحرر من هيمنة هذه الرؤى إلاّ نادرا، ومن المعلوم أن هذه الرؤى تصدر عن تلك المعايير والأحكام، التي اشاعتها دراسات المستشرقين حول الفلسفة الاسلامية.
وهكذا يسدل الستار على قرون كثيرة، من تأريخ أعظم تجربة للتفكير الفلسفي، وخصوصا في حقل الفلسفة الالهية.
من هنا سنحاول القاء ضوء سريع على كل شيء من مكتسبات هذه التجربة الفلسفية، لنتعرف على الظلم الفادح، الذي نشأ عن تعميم المنهج الاستشراقي في دراسة الفلسفة الاسلامية
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 154 - الخميس 06 فبراير 2003م الموافق 04 ذي الحجة 1423هـ