للعولمة أو الكوكبة الاقتصادية آلياتها ومؤسساتها التي تنظم العلاقات الاقتصادية الدولية، وهي مؤسسات لم تأخذ لغاية الآن البعد الاجتماعي في اعتبارها على رغم اطروحاتها النظرية القائلة بذلك، إذ ان الاتجاه السائد في المؤسسات الاقتصادية الدولية للكوكبة هو ان نجاح البعد الاقتصادي - بحسب نظرياتهم الليبرالية - سيحقق بالضرورة جني الثمار اجتماعيا. ومن المعروف ان أهم المؤسسات الاقتصادية التي تقود الكوكبة الاقتصادية هي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الرسمية.
فعلى صعيد صندوق النقد الدولي الذي انشئ بموجب اتفاق (بريتون وودز) العام 1944 ومارس نشاطه فعليا في مارس/آذار 1946 فدوره الاستراتيجي يقوم في الدرجة الأولى على تحديد السياسة المالية والنقدية ووضع القواعد والسياسات المالية للدول ذات الاقتصاد المتعثر بما يحقق إعادة هيكلة اقتصاد هذه الدول.
ويركز الصندوق أساسا على استقرار أسعار الصرف، وإيجاد نظام للمدفوعات متعدد الأطراف بالنسبة إلى العمليات الجارية بين الدول الأعضاء وإزالة القيود المفروضة على الطرف الأجنبي من أجل انسيابية التجارة الدولية.
وعبر سلسلة من الإجراءات المكملة، الاستشارية منها أو التدريبية، يقوم الصندوق بتمهيد وتهيئة الأرضية للبنك الدولي بأن يقوم بتقديم القروض عبر مؤسساته المالية كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير (1944) الذي يقوم بتقديم قروض إلى الدول النامية التي بلغت درجة متقدمة من النمو الاقتصادي والاجتماعي، والرابطة الدولية للتنمية (1960) التي تقوم بتقديم مساعدات إلى الدول الأقل فقرا وبشروط تمويل أيسر وكلفة أقل، وأخيرا مؤسسة التمويل الدولية (1965) التي تقوم بدعم التنمية الاقتصادية الأقل نموا لتشجيع النمو في القطاع الخاص، وبناء على شهادة صلاحية يصدرها صندوق النقد الدولي عن صلاحية الاقتصاد في الدولة الطالبة للقروض، يقوم البنك بمنحها القروض اللازمة لتمويل احتياجاتها.
ونظرا إلى عدم مراعاة هاتين المؤسستين للخصوصيات الوطنية وللنظم السياسية الهشة وللآثار الاجتماعية السلبية الناتجة عن برامج الإصلاح الاقتصادي، وخصوصا توقف دور الحكومات في التوظيف وتقليص الإنفاق الحكومي، فإن هذه السياسات والبرامج قد أدت الى سخط عام وانتفاضات كثيرة في معظم الدول النامية التي التزمت هذه البرامج، ولذلك وأمام كل ذلك، ومع عدم وجود تلك الاعتبارات الأيديولوجية السابقة التي كانت تهيمن على قرارات المؤسسات الرأسمالية النقدية ابان الحرب الباردة، بدأت هاتان المؤسستان في تعديل نسبي في برامجهما بحيث تم إدخال معايير اجتماعية وحقوقية مثل معيار (الحكم الصالح) الذي يركز على حقوق الإنسان وعمالة الأطفال والأجر المتساوي للرجل والمرأة ووجود النقابات العمالية وغير ذلك من المعايير التي تأخذ في الاعتبار الآثار الاجتماعية السلبية لأي برنامج تصميمي في هيكلية الاقتصاد.
أما الضلع الثالث من الكوكبة الاقتصادية فيتمثل في منظمة التجارة العالمية التي تعتبر امتدادا طبيعيا للاتفاقات العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) والتي أنهت آخر جولاتها في الدوحة العام 2002م، بالسعي إلى تحرير الأسواق العالمية للسلع والخدمات، وتعتبر هذه المنظمة من أهم مؤسسات الكوكبة إذ تعمل على تحويل الاقتصادات الوطنية المنعزلة إلى إقتصادات مفتوحة تندمج مباشرة في الاقتصاد العالمي.
الاستثمارات الأجنبية
تمثل الشركات متعددة الجنسيات أو الشركات عابرة القارات إحدى أهم مؤسسات الكوكبة وتتجلى أدوارها في صورة الاستثمار الأجنبي المباشر عبر تنفيذ مشروعات عملاقة تملك وتسيطر على مرافق انتاجية أو خدمية خارج دولة المقر الرئيسي للشركة، وهذه الشركات تتميز بضخامة رؤوس أموالها، وبحسب تقرير الاستثمار العالمي للعام 2001م كشف مدى نمو الاستثمار الأجنبي المباشر عالميا، إذ ارتفع عدد البلدان التي تتلقى معدلا سنويا يزيد على مليار دولار من (17) دولة منها (6) دول نامية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي إلى (51) دولة منها (23) دولة نامية في نهاية التسعينات من القرن العشرين.
وعلى رغم ذلك فلايزال توزيع هذا الاستثمار الأجنبي المباشر غير متكافئ، إذ تستأثر الدول الثلاثون الأولى في العالم بنسبة (95 في المئة) من مجموع تدفقاته و(90 في المئة) من أرصدته.
واختصارا في مسألة آليات وأساليب جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، فإن على الدولة أن تشخص أنواع الشركات التي تحتضن هذه الاستثمارات المباشرة، فمنها شركات كونية ومنها شركات متعددة الجنسيات ومنها شركات عابرة القارات ومنها شركات متعددة القومية ومنها شركات عالمية النشاط، ولكل نوع من هذه الشركات فلسفتها ورؤيتها وبرامجها.
أما المتطلب الثاني والمهم هو قيام الدولة بالانتقال السريع إلى الجيل الثالث من سياسات اجتذاب الاستثمار الأجنبي، ذلك أن اجتذاب هذه الاستثمارات يتطلب اتباع أساليب كثيرة وأهمها أن تتجاوز الجيلين الأول والثاني من سياسات تشجيع الاستثمار. ففي سياسات الجيل الأول تعتمد البلدان على تحرير نظم الاستثمار الأجنبي المباشر لديها وتطبيق سياسات مواتية للأسواق، وفي الجيل الثاني تذهب الحكومات خطوة أبعد وتسعى ناشطة إلى اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر بتسويق بلدانها، ما يتطلب إنشاء هيئات لتشجيع الاستثمار، ويبدو واضحا أن غالبية الدول النامية حتى التي تعتقد بأنها وصلت إلى مستويات عالمية في تنميتها البشرية وحريتها الاقتصادية مازالت تتراوح في إنجاز متطلبات بين الجيل الأول والجيل الثاني من سياسات اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر. إذ أن الجيل الثالث من هذه السياسات يمضي قدما لاستهداف المستثمرين الأجانب على مستوى الصناعات والشركات ليلبي احتياجاتها الموقعية المحددة على مستوى النشاط والمجتمعات في ضوء الأولويات الانمائية للبلد، وأحد العناصر الحاسمة في تشجيع الاستثمار على هذا النمو هو تحسين وتسويق مواقع معينة لدى المستثمرين المحتملين في أنشطة بعينها.
وبحسب دراسة اعدتها منظمة العمل بعنوان «العولمة والاوضاع الدولية الراهنة وآثارها على اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي» والتي اعتمدنا على محاورها في هذا المقال، تكشف عن ضعف مقدرة الدول النامية في جذب الاستثمارات المباشرة، فلايزال نصيب الدول المتقدمة منها مرتفعا قياسا بنصيب الدول النامية، إذ ارتفع من (68,9 في المئة) في الفترة من العام 1992 حتى العام 1998 إلى (71,5 في المئة) على حساب الدول النامية التي تناقص نصيبها من (28,6 في المئة) إلى (25,8 في المئة)، ومن المؤشرات المهمة في هذا المقام أن نصيب الصين يعتبر من اكبر الانصبة باعتبارها دولة نامية متلقية للاستثمارات الاجنبية، وهو مؤشر يفرض على دول مجلس التعاون التعامل معه بشيء من التدقيق والدراسة واكتشاف الاسباب التي تدعو إلى نجاح الصين في استقطاب النسبة الكبرى من الاستثمارات الاجنبية الموجهة إلى الدول النامية، ويمكن القول إن أهم الاسباب ضخامة السوق الصينية ورخص الايدي العاملة ووجود طلب كبير ومجالات هائلة للاستثمار، بجانب التحولات الاقتصادية وانفتاح الاقتصاد الصيني وشفافية وجدية التوجهات الاقتصادية المعتمدة على تخطيط واضح المعالم. غير ان ما يميز اتجاهات هذه الشركات هو اعتمادها على المعلوماتية والتكنولوجيا المقترنة بالكوكبة وهو اتجاه غيّر من استراتيجية هذه الشركات في إدارة اعمالها إذ اصبحت تميل كثيرا صوب التركيز على انشطة تعتمد على المهارات من ناحية وعلى خفض الاعتماد على العمالة وخصوصا العمالة غير الماهرة من ناحية ثانية.
وعلى رغم التناقص الظاهري بين مؤشرات توجه الاستثمارات الاجنبية نحو الاسواق الوطنية كثيفة العمالة والرخيصة كالصين، واتجاهاتها نحو المعلوماتية والتقنية وتقليص الاعتماد على العمالة، فإن هذا التناقض يزول إذا ما تم استيعاب نوعية الاستثمارات الموجهة صوب هذه الاسواق، واستراتيجيتها المتوسطة المدى والمعتمدة على تأسيس صناعة تعتمد على المدى الاستراتيجي الطويل على التقنية وكثافة رأس المال على حساب الاعتماد التقليدي على العمالة، ولذلك فهي تبحث عن تلك الاسواق التي تحتضن عمالة رخيصة لمرحلة التأسيس، فضلا عن وجود مجالات استثمارية افقية لا حدود لها، ومجالات هائلة لزيادة القيمة والقيمة المضافة ولاقامة مشروعات تكميلية وغير ذلك من المغريات التي لا تتوافر في الاسواق الوطنية الصغيرة المتحصنة غير القادرة على توحيد وتكتيل جهودها لتخلق سوقا كبيرة نسبيا.
منتدى دافوس وويف
من مؤسسات الكوكبة الاقتصادية ايضا تلك المنظمات غير الحكومية ذات الطابع التجاري والمالي والاقتصادي والتي تخلق الاجواء وتوفر الارضية للحوار والتفاهم بين الاقتصادات ورجال الاعمال والمال من جانب، وبين اصحاب القرار السياسي من جانب آخر، واهم هذه المنتديات المنتدى الاقتصادي العالمي (ويف) ومنتدى (دافوس) الذي تم إنشاؤه في السبعينات بمعرفة استاذ الاقتصاد السويسري (كلاوس شواب)، ويتكون منتدى (دافوس) من مجلس إدارة مؤلف من 36 شخصية عالمية شغلت في بلدانها مناصب رفيعة، وتنتسب إلى عضوية المنتدى اكثر من ألف شخصية ومؤسسة وشركة عالمية وخصوصا الشركات المتعددة الجنسية.
وهذه المنتديات عادة تكون داعية إلى سيادة العولمة ومحرضة ومبشرة بالمفاهيم المتعلقة بالاعتماد المتبادل وحرية التجارة وابراز ايجابيات الشركات عبر الوطنية واهمية تداول الاستثمار الاجنبي المباشر، ولأنها منتديات مكشوفة واجتماعاتها التي تتخذ فيها القرارات المعلومة معروفة، وهذا عكس الصفقات والاتفاقات التي تعقد بين الشركات العملاقة والحكومات والتي تكون عادة سرية وغير معروفة، ولذلك فإن المنظمات غير الحكومية كافة والتي تتعارض مصالحها واهدافها وقيمها مع (وحشية) العولمة تقوم بالاحتجاجات الشعبية القوية ضد اجتماعات هذه المؤسسات العالمية وخصوصا الحركة النقابية العالمية وجماعات الخضر وحماية البيئة والسلام، ولذلك ايضا فإن ممثلي هذه الحركات الشعبية لا يلقون ترحيبا أو قبولا في هذه المنتديات المعلومة كمنتدى (دافوس)، على رغم اهمية وجود الشركاء الاجتماعيين الثلاثة (الحكومات، رجال الاعمال، العمال) في مثل هذه المنظمات، إذ ان وجود جميع اطراف الانتاج سيساهم في صوغ اتفاقات وقرارات تحقق النتائج الايجابية للجميع من دون ان تخلق اضرارا أو زعزعة في الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المجتمعات التي اخذت تنفتح برغبتها أو تنفتح ضد إرادتها القيمية صوب الكوكبة، تفاح آدم لعصرنا الراهن
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ