إذا ما كانت العناصر الأساسية للعولمة هي ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم، سواء منها المتمثلة في تبادل السلع والخدمات أو في انتقال رؤوس الأموال، أو في تأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم، فإن هذه العولمة يعرفها المجتمع الانساني منذ قرون. وإذا كان صحيحا أن أي تأثير خارجي على موضوع ما لا يتم إلا من خلال القوانين الداخلية التي تحكم هذا الموضوع، ما عبرت عنه الآية الكريمة «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد: 11). فإن لنا نحن العرب والمسلمين من تاريخنا القديم والوسيط شواهد تؤكد ان الاطروحات الحضارية والثقافية العادلة كالاسلام هي اطروحات انسانية وعالمية، وهذا مقتضى كون الرسالة الإسلامية خالدة، وأن الدين عند الله الإسلام. وعلى هذا الأساس بلغ الإسلام مستوى عالميا ومازال مسكونا بالطموح والشوق إلى استئنافه وتوسيعه بشرط القبول، أي الدعوة بالخطاب والسلوك الحضاري المطابق. وقبول الآخر كما هو بكل مكوناته وحساسياته مقدمة لتحرير وتوسيع المساحات المشتركة وانتهاء إلى القبول بالانتماء من دون مسح للمكونات والمحددات الأخرى في الهوية.
ولنا شواهد تؤكد أن الغلبة وحدها لا تكفي للانغلاب ووقوع المغلوب في حضارة وثقافة الغالب، ومن الداخل، مما في أنفسهم، عاند المسلمون ومانعوا الحروب الصليبية وموجباتها المفترضة في الفكر والسلوك، وقلبوا المعادلة حتى بات المؤرخون الغربيون والشرقيون ممن عاصروا أو تابعوا يتحدثون عن انتصارات عسكرية للحملات الصليبية وعن قتلى وجرحى من الطرفين وعن خرائب احدثوها في الاجتماع والحياة والعمران، وعن عادات وتقاليد وأعراف وأفكار وقيم وأنظمة عيش واجتماع مختلفة، لم تملك ثباتا أمام اغراءات الحياة العربية والإسلامية التي طاولت كل مناحي حياتهم من أنظمة البيوت إلى طرائق العيش والطعام واللباس والأعراس والعلاقات الأسرية.
وعندما عادوا وقد انكشفت الأفكار التي حملوها عن الشرق وانكشفت الكنيسة التي زودتهم بها وأرسلتهم، بدأ ما يسمى بعصر التنوير. وأثناء هذه الحروب كلها، كان العرب والمسلمون يتابعون حياتهم النشطة من دون أن يغلبوا مستوى منها على مستوى آخر، أو يلغوا مستوى لصالح مستوى آخر. كانوا يقاتلون ويتعلمون ويبدعون ويعمرون ويهندسون ويزرعون ويصنعون (ذاق الغربيون طعم السكر لأول مرة في بلادنا) ويمارسون حياتهم السياسية بكل حيوياتها. وعندما داهمنا المغول أثناء الحروب الصليبية، استطعنا بمناعتنا وممانعتنا أن نوطن الاسلام الايماني والحضاري والثقافي في هذه الموجة التي كانت لا تقل توحشا عما يتوقع أن تكون عليه العولمة الآتية، من توحش في مجال المال والاقتصاد خصوصا. وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث، فإن العولمة الشيوعية أدت إلى انقسامنا عليها إلى مبشرين وجازعين، ذلك أننا لم نكلف أنفسنا عناء القراءة المتأنية لاستحالتها المنهجية، بينما أسس مفكر مثل «ماكس فيبر» لرؤية علمية كشفت انسداد الأفق الشيوعي، واستكمل هذا المسار مفكرون نقديون ماركسيون من غارودي إلى ماركوز مرورا بهنري لوفيفر وغيرهم... قتلنا نحن من جانبنا الشيوعية خطابا مؤيدا أو رافضا مرتجلا في كل حال، غير مفكرين مسلمين لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، استشرفوا واستقبلوا فرأوا من خلال تجربتهم مع الشيوعية الآسيوية (جلال آل أحمد مثالا) أو من خلال موقع فكري منهجي معارض (علي سيد جوادي مثالا أيضا).
ومن هنا كنا في مناهضتنا للعولمة الشيوعية نقف على أرضية أخرى، لم يكن حبنا يصب في طاحونتنا، ولا أظن أن أحدا يقرأ سقوط التجربة الشيوعية قراءة تاريخية تحليلية، يجد لنا أثرا في ذلك، فقد ضاعت سدى كل مجهوداتنا التي كان ينبغي أن تنصب على مشروع نهضة اسلامية وعربية تدخلنا في الحداثة من دون أن تفصلنا عن أصولنا، بل تقيم حداثتنا على تلك الأصول.
ولنفترض الآن أن العولمة شر كلها أو جلها، فإننا ملزمون بالبحث عن أسباب ممانعتنا، أي تجنب المقدار الأكبر من سلبيات العولمة بالعمل الدؤوب المسترشد بالفكر المتحرك والمتأمل عميقا في الأصعب من أسئلة العصر، المتنكب لسبيل الأجوبة السهلة، والذي لابد أن يكف عن الاسقاط على الماضي لا حبا به وبمثالاته، بل استسهالا له أمام صعوبة الحاضر الشديدة وصعوبة المستقبل الأشد.
هذه الصعوبة، التي راكمناها وفاقمناها بالكسل (والاستهانة)، فانتقلنا من طموح المشاركة إلى أحلام البقاء بأي شرط أو من دون شرط... ما يعني أننا إذا لم ننهض وإذا بقيت العولمة فزاعة أو غولا، ذاهبون بعيدا في مسار الاستحواذ علينا غير أني هنا أقرع جرس هذه المحاذير. وهذا الكلام يطاول أكثر ما يطاول أجيالنا الوسيطة التي كان عليها أن ترى أكثر وإلى الأبعد، ولكنها لم تر إلا حيزا من المشهد وجزءا من الحقيقة فكان صعبا علينا أن نتوقع، وإذا توقعنا أن نفعل، غير أن أجيالنا الفتية، الرائحة الغادية بين الأسئلة والتحديات الكبرى وبين رغبتها في المعرفة وتوقها إلى الانعتاق وتحقيق الذات، والمرصودة بمسالك حياتية مدمرة، تدمرها عن قصد وتخطيط من أعدائنا وقلة احتفال واهتمام منا بها، هذه الأجيال تختزن إرادة كبيرة بالمعاندة ورغبة أكيدة في أن يبقى حضورها وطموحها محكوما بايمانها، واسلامها مسترشدا بمعرفة الأصل والفرع، المقتنى المخزون والمستجد في العلم والحياة، وإذا ما كانت هذه الأجيال هي الهدف المنصوب لمستقبل العولمة، فإنها هي الضمانة لقلب المعادلة واختيار، الموقع المتوازن وتحقيقه، والوازن بين شر العولمة وخيرها، بين العولمة وسلامة الذات
إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ