العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ

مشكلة الاستقلال والوحدة بدأت قبل قرن... عندما يعيد التاريخ نفسه

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

كان صبر قطاعات واسعة من علماء العرب ومثقفيهم على حكم السلطان عبدالحميد قد وصل إلى حد النفاد عندما نجحت جمعية «الاتحاد والترقي»، عبر انقلابين متتالين في 1908 و1909 في تسلم مقاليد الحكم في السلطنة العثمانية. خلال السنوات الاخيرة من ولاية عبدالحميد، تحولت الدولة العثمانية إلى آلة تحكم امني وسياسي وفكري هائلة، تعززها ادوات مؤسسة الدولة الحديثة ونزوعها إلى السيطرة.

في مواجهة عالم معاد واطماع امبريالية متصاعدة لم يجد عبدالحميد من وسيلة للحفاظ على ما تبقى من البلاد العثمانية سوى احكام قبضة الدولة على الرعية وإخراس مصادر الانتقاد والمعارضة، ومطاردة من رفض الانصياع إلى المنفى.

وهذا ما جعل جمهور الولايات العربية يستقبل الحكم الجديد بآمال واسعة، وخصوصا بعد ان أعاد الاتحاديون الدستور ودعوا إلى انتخابات برلمانية هي الاولى منذ 1876، واعلنوا عزمهم على تحقيق المساواة بين شعوب السلطنة والعمل على الارتقاء بالبلاد والامة وحماية مقدراتها.

بيد ان الحكام الجدد من شبان «الاتحاد والترقي» افتقدوا التجربة والحكمة والوعي لتشخيص علل السلطنة وطرق التعامل معها، وكما غالبية رجال الدولة منذ مطلع القرن التاسع عشر وجدوا انفسهم في مواجهة سلسلة من التحديات الغربية الطامعة، سواء في جناح السلطنة الاوروبي أو في ولاياتها الآسيوية والافريقية. وشيئا فشيئا، تحول الاتحاديون بالنظام البرلماني الدستوري إلى حكم مركزي دكتاتوري لا يرحم. ما دفع الاتحاديين إلى طريق الاستبداد، كان الاعتقاد بأن الحل الوحيد لازمة السلطنة ذات الكتل القومية المتعددة (اتراك، عرب، ألبان، اكراد، أرمن) هو الحكم المركزي والتتريك، اي العمل على اذابة التنوعات القومية لصالح هوية ثقافية تركية واحدة. في المنطقة العربية، حيث المشاعر والاحاسيس القومية بدأت في التبلور منذ نهاية القرن التاسع عشر، استقبلت سياسة التتريك باعتبارها حربا على العرب وعلى لغتهم وثقافتهم، التي هي لغة الاسلام وحاضنة موروثه. وكلما توغلت الحكومة الاتحادية في مشروع التتريك والقضاء على ما تبقى من نظم محلية، تصاعدت المقاومة العربية لاسطنبول، سواء في اوساط العلماء أو في اوساط الضباط والكتّاب والمثقفين وموظفي اجهزة الدولة. خلال اقل من ثلاث سنوات على وصول الاتحاديين إلى السلطة، تحول التحالف المبكر بينهم وبين المعارضة العربية لعبدالحميد إلى حرب سافرة.

الاعتقاد السائد بأن خروج العرب العثمانيين على الدولة قد بدأ بإعلان الثورة العربية من الحجاز في صيف 1916، اي بعد زهاء العامين على اندلاع الحرب العالمية الاولى، هو طبعا اعتقاد غير صحيح. فقد شهدت السنوات القليلة من حكم الاتحاديين قبل الحرب العالمية الاولى، ليس فقط معارضة سياسية عربية واسعة النطاق، بل ايضا ثورات محلية مسلحة في نجد واليمن وشرق الاردن، وحركة احتجاج عربي حاد على فشل الاتحاديين في الدفاع عن ليبيا في مواجهة الغزو الايطالي، في وقت كانت نوايا ايطاليا العدوانية تجاه ليبيا معروفة في اسطنبول قبل ان يبدأ الغزو الفعلي. ولا شك في ان «المؤتمر العربي» الذي عقد في باريس في 1913 سيبقى لفترة طويلة محل جدل المؤرخين فيما يتعلق بدوافع اعضائه وارتباطات بعضهم، ولكن الحقيقي ايضا ان المطالب التي اعلنها المؤتمر عبرت فعلا عن مشاعر واحاسيس شرائح عربية واسعة.

بيد أن الرابطة العثمانية (معززة بالخلافة) التي وحدت العرب والاتراك وشعوب السلطنة الاخرى لأكثر من 400 سنة ما كان لها ان تنهار بسهولة. وهكذا، ما ان دخلت الدولة العثمانية غمار الحرب في تحالف مع الالمان والامبراطورية النمسوية، حتى التف العرب، بما في ذلك المعارضون للحكم الاتحادي، حول بيارق الدولة. وحتى في القاهرة، مقر عشرات المعارضين العرب لاسطنبول، اعلن رشيد رضا عبر مجلته «المنار» تأييده للدولة وجهدها الحربي ودعا اشقاءه العرب في سورية والعراق والجزيرة العربية إلى الدفاع عن البلاد امام جيوش الحلفاء. ولكن تحولات الحرب سرعان ما واجهت العرب بمفاجأة قاطعة على صعيد علاقتهم بأسطنبول والحكم الاتحادي. اذ ما ان بدأ الجيش العثماني الرابع بقيادة الاتحادي البارز جمال باشا في التراجع عبر سيناء إلى غزة امام الحملة البريطانية حتى استدار جمال باشا على المعارضين العرب القدامى، الواحد منهم تلو الآخر، في سلسلة من المحاكمات العسكرية السريعة وغير العادلة، والتي اثارت انتقاد حتى بعض كبار ضباط الجيش العثماني من الاتراك. وشهدت فترة حكم جمال باشا لسورية خلال الحرب فوجا بعد فوج من كبار رجالات العرب يعلقون على اعواد المشانق في قلب دمشق وبيروت والقدس. هذا بينما اودع المئات في اقبية السجون وأرسلت مئات اخرى إلى المنافي الداخلية النائية.

كان الرأي العام العربي في سنوات ما قبل الحرب الاولى يعيش انقساما مؤلما على الموقف من الاتحاديين وسياساتهم. ولكن اجراءات القمع والاضطهاد وعجز الاتحاديين عن الدفاع عن البلاد، ادت جميعا إلى اتساع دائرة المعارضة العربية لاسطنبول وبروز اكثرية واضحة تأمل في وضع نهاية للرابطة العربية - التركية. في القاهرة، كان رشيد رضا والشيخ كامل القصاب وعدد من اعيان بلاد الشام ورجالاتها قد بدأو تفاوضا مع السلطات البريطانية بشأن مستقبل العرب وسورية الكبرى. في الحجاز، اخذ الشريف حسين، بدعم من بريطانيا وبالاتفاق معها، يعد قواه لاعلان الثورة على الحكم الاتحادي. وما ان اعلنت الثورة، وقاد فيصل بن الحسين طليعة قواتها باتجاه دمشق، حتى تدفق العراقيون والسوريون، بما في ذلك علماء ومثقفون وضباط عثمانيون سابقون، للانضمام إلى الثورة. وحتى الضابط العثماني المقدسي الشاب امين الحسيني، الذي سيبرز خلال سنوات قليلة قائدا للحركة الوطنية الفلسطينية، اغتنم فرصة اجازة قصيرة من الجيش العثماني ليمد يد العون لفيصل وقواته.

خرج العرب على الدولة وألقوا عرض الحائط بالرابطة العثمانية لأسباب عدة، تعلق بعضها بيأسهم من اصلاح الامور في اسطنبول، وبطموحاتهم القومية المتصاعدة، وبسياسات القمع العمياء التي مارسها جمال باشا وأحزابه، وبإدراكهم ان الحرب ستؤدي لا محالة إلى انهيار الدولة وانحسار نفوذها. وقد استقر في قلب العرب آنذاك حلم كبير بأن تنتهي الحرب العظمى بإقامة دولة عربية تضم بلادهم جميعا، يحكمها عربي منهم، تحمي في ظلالها كرامتهم وتبني نهضتهم من جديد، وتضعهم على طريق التقدم إلى مصاف الامم الاولى. ولا يخفى ان ذلك الحلم حمل ايضا على وعود دول الحلفاء وخطابها الموجه إلى العرب، والعالم اجمع. وعلى رغم الغموض المتعمد، كانت رسائل المسئولين البريطانيين إلى الشريف حسين تعد باستقلال العرب ووحدتهم، وكانت لقاءات المسئولين البريطانيين المتعربين برجال العرب في القاهرة تنم عن الصداقة والايمان بجدارة العرب وموقعهم في التاريخ. قلة من العرب آنذاك (مثل شكيب ارسلان) رأت الخطر الداهم في تحالف العرب مع بريطانيا وانحيازهم للحلفاء في الحرب، الحرب التي كان من الواضح استهدافها الوجود العثماني كله وليس تحرير العرب من استبداد الاتحاديين. ولكن ارتباط تلك القلة باسطنبول وعلاقات الكثير من بينها بقادة الاتحاديين قوضت من صدقية التحذيرات الصادرة عنهم وأضعفت اثرهم على الرأي العام العربي. بشكل او بآخر، كان العرب يغذون السير في طريق التحالف مع بريطانيا من دون كبير جدل على ما يمكن ان يؤدي إليه ذاك الطريق من مخاطر.

وحتى بعد ان بدأت التشريعات الروسية عن اتفاق (سايكس بيكو) و(وعد بلفور)، جاء انعقاد «مؤتمر الصلح» في باريس محاطا بالدوي الهائل لاعلان مبادئ الرئيس الاميركي ويلسون حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. ما اطفأته التقارير عن الخداع الانغلو - فرنسي من الحلم العربي، جاءت المبادئ «الويلسونية» لتحييه من جديد. ولكن حقائق ما بعد الحرب سرعان ما اخذت في التكشف، شيئا فشيئا، بقسوة السلاح ووقع الخلل الفادح في ميزان القوى، وبلا هوادة، تجاهلت بريطانيا وفرنسا مبادئ ويلسون، نكثتا وعودهما السابقة لرجالات العرب وقادتهم، واخذت وحدات جيوشهما في رسم حدود المشرق العربي كما لم ترسم وتقسم من قبل مطلقا. فرضت القوات الفرنسية احتلالها على لبنان وفصلته عن الجسم السوري، ثم اوقعت هزيمة مؤلمة بالجيش الوليد للدولة العربية في معركة «ميسلون» القصيرة، وتقدمت بعد ذلك لتسيطر على دمشق.

في شرق الاردن، نصب البريطانيون عبدالله بن الحسين اميرا على البلاد تحت سيطرة انتدابية بريطانية في محاولة لاسترضاء الاشراف. في فلسطين، فتحت بريطانيا الابواب لهجرة يهودية واسعة تمهيدا لاقامة ما سمي آنذاك بالوطن القومي اليهودي، الذي سرعان ما تحول إلى قوة سرطانية كبرى في المنطقة.

وفي العراق، الذي وقع هو الآخر تحت السيطرة البريطانية، لعبت بريطانيا دورا رئيسيا في تحويل التجرية البرلمانية المشوهة قصيرة العمر إلى دولة قمع تتحكم فيها اقلية صغيرة من النخبة العراقية المنقسمة بين الارتباط ببريطانيا وحماية المصالح الوطنية العراقية ومراعاة مسئوليات العراق القومية.

على رغم مقاومة الجيش العثماني الاسطورية (بأتراكه وعربه وكرده) امام قوات الحلفاء في تقدمها البطيء على طريق البصرة - بغداد وغزة - القدس - دمشق، فالحقيقة التي يصعب نكرانها ان السكان العرب في العراق وسورية الكبرى استقبلوا القوات الغازية ببعض الارتياح، ارتياح التخلص من تعسف الاتحاديين وآلام الحرب، والامل في مستقبل افضل للعرب جميعا. ولكن العرب وجدوا انفسهم بعد عامين فقط على هزيمة الدولة العثمانية وانهيارها ممزقين الى كيانات صغيرة لا تحمل مقومات الحياة، محتلة جميعا تقريبا من القوات الاجنبية، وتواجه مستقبلا مفتوحا على جملة احتمالات لا يقل احدها سوءا عن الآخر. لا وحدة العرب تحققت، لا الاستقلال انجز، ولا النهضة بدت قريبة المنال. خلال السنوات الثلاثين التالية، كان على العرب ان يناضلوا نضالا باسلا لاستعادة حلم مطلع القرن العشرين، ولكن حتى بعد عقود النضال التحرري الطويلة، لم يتح لهم ان يسترجعوا الحلم كله، بل مجرد جزء صغير منه.

اليوم، يوشك التاريخ ان يعيد نفسه. والتاريخ، كما قال احدهم يوما، يعيد نفسه مرتين، في المرة الاولى بشكل مأسوي وفي الثانية بشكل هزلي. فأي من الاحتمالين يواجه العرب اليوم؟

العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً