في المدينة المنورة، هناك أماكن تاريخية يخسر، إن لم يكن يخطئ من لا يزورها، سواء عن قصد أو سهو. ومن هذه الأماكن «المساجد السبعة»، فما هي هذا المساجد وأين تقع بالضبط؟ وما خلفيتها؟
تخرج بك السيارة من المدينة إلى أحد أطرافها، إذ يقوم عدد من المساجد الصغيرة التي يزورها المسلمون تبركا وتقربا إلى الله بالصلاة فيها. ويغيب عن بال الكثيرين ماذا تعني هذه المساجد المتقاربة التي تجمعها مساحة صغيرة من الأرض، كأنما تريد ان تحتضن بعضها بعضا.
غزوة الخندق في التاريخ
لابد من عودة سريعة إلى أوراق التاريخ، وكلنا يعرف قصة غزوة الخندق، إذ جاءت جحافل الكافرين بقيادة أبي سفيان، لغزو مدينة الرسول«ص»، لتقويض دولته الناشئة، يقودها الجهل والعصبية والضلال. وكان الجيش الغازي، المكون من قريش وأحابيشها وحلفائها من غطفان واليهود، أقوى مما يمكن أن تواجهه الدولة الجديدة، فعاش المسلمون في همّ وهم يتحسبون الحرب المقبلة، وهو ما وصفه القرآن الكريم في سورة الأحزاب: «إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا» (الاحزاب: 10 و11). يا لهول الموقف... وخطورة الوضع إذا.
وشاور الرسول أصحابه فأشار عليه سلمان الفارسي (رض) بقوله: «إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا»، فرضي رأيه، حتى طلب الأنصار والمهاجرون أن ينسب إليهم، فقال (ص) كلمته الشهيرة: «سلمان منا أهل البيت».
وعمل المسلمون على حفر الخندق في نشاط لئلا يداهمهم العدو. المهاجرون في جهة والأنصار في الجهة الأخرى، وعمل معهم الرسول بيديه الكريمتين. وكان الخندق في الجهة المفتوحة من المدينة اعتمادا على ما توفره الجبال الأخرى من حماية من جهة، فضلا عما كان عليه بناء المدينة من تشابك يجعلها كالحصن. وهو أسلوب لم تعهده القبائل العربية في جزيرتهم، إذ كانت تعتمد على أسلوب الغارات والكر والفر. فلما وصل الجيش أسقط في يده، فوقف محتارا لا يدري ما العمل فقالوا: «والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها»!
وكان المسلمون مرابطين قرب الخندق لرصد أي تسلل. وحدث بالفعل أن قام أحد فرسان المشركين، ويدعى عمرو بن عبد ودّ العامري، والذي كان يقدر بألف فارس، باطلاق العنان لفرسه ليعبر من أضيق نقطة في الخندق. واعتبر ذلك اختراقا يستدعي الفخار فوقف مبتهجا مزهوا ببطولته، وأخذ ينادي: هل من مبارز؟ فبرز له الإمام علي (ع)، في ذلك اليوم المهيب والموقف الرهيب، الذي قال فيه صاحب الرسالة (ص): «اليوم برز الإيمان كله إلى الكفر كله». وهو أبلغ تعبير عن خطورة الموقف الذي واجه الدولة الفتية والدين الجديد. وبعد جولات جرت بين الفارسين، استطاع الإمام أن يقتله بضربة بارعة بعد أن راغ من ضربة سيفه، وما انجلى الغبار إلا وفارس الإسلام يلوح بسيفه علامة الانتصار، حتى قال محمد (ص): «ضربة علي لعمرو أفضل من عمل الثقلين إلى يوم القيامة» كما جاء في التواريخ. كما أرسل الله على المشركين ريحا، فقلعت الأوتاد وأطفأت النيران فاضطرب العسكر بعضه ببعض وجالت الخيل ببعضها، حتى صاحوا: النجاء النجاء، و ذلك ما سجله القرآن في آياته: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها» (الأحزاب: 9).
زيارة لأرض الخندق
بعد هذه الجولة السريعة في ربوع التاريخ، آن لنا التجوال اليوم في أرض المعركة، لنشمّ عبير البطولة والفداء، ولنستروح نسائم المجد التليد الذي رفع رايات الإسلام في الأعالي. فما وصل هذا الدين الذي يفرّط فيه الكثير من المسلمين اليوم إلا بعد تلك التضحيات الجسام.
إذا نزلت من السيارة ستشعر كأنك ستدخل حديقة جميلة، تشبه الحدائق العامة البسيطة في بلادنا، تلفها الأشجار والأغصان، وتحوطها الخضرة من أكثر الجهات. وستجد الباعة يفترشون الأرض، أكثر بضاعتهم من الألعاب المستوردة، وقليل من الملابس المحلية، وبالذات (الملافع السوداء) التي تستخدمها النساء أغطية للرأس. وهي بسيطة النقوش والتصاميم، وتحظى بإقبال من الخليجيات بالذات. ويمكنك أن تشتري هنا لأطفالك بعض الألعاب الالكترونية الموجودة بوفرة في أسواق مكة أو المدينة أو أي متجر ألعاب في بلدك، لكن للشراء في السفر طعم خاص، فالهدية من الخارج لها منزلة خاصة، عند المهدي والمهدَى إليه، أليس كذلك؟
المساجد السبعة أم الخمسة؟
تنبغي الإشارة إلى أن هذه المساجد هي ببساطة الأماكن التي كان يقيم فيها الصحابة الكرام أثناء فترة حفر الخندق أو المعركة، حتى رد الله المشركين بخيبتهم لم ينالوا خيرا. بكلمة أخرى: كانت هذه نقاط الحراسة التي كان يرابط فيها المسلمون، ولذلك ارتبط كل موقع بالشخصية التي كانت تحتله، فكانت تقيم وتصلي وتتناول طعامها فيه، في ذروة حال الاستنفار التي عاشها مجتمع المدينة في تلك الظروف.
تفيد المصادر القديمة - كما يحدثنا محمد إلياس عبدالغني في كتابه: «المساجد الأثرية في المدينة المنورة» - وجود أربعة مساجد في هذه الساحة: الفتح، سلمان، علي وأبوبكر. أما المسجدان الآخران عمر وسعد بن معاذ، فلم تشر إليهما المصادر إلا في عهد قريب كما يقول الكاتب، اعتمادا على تتبع ما ذكر في رحلات ابن بطوطة وابن جبير والفيروزآبادي وغيرهم.
يقوم مسجد الفتح على مكان مرتفع من الجبل، إذ نزلت الآية الكريمة التي تبشر الرسول (ص) بالفتح أثناء استغراقه في دعائه الحار بالنصر.
يليه في القبلة مسجد سلمان (رض) الذي شارك في الغزوة سنة 5 للهجرة لأول مرة لكونه من قبل رقا، وهو صاحب فكرة الخندق الذي أخذت المعركة اسمها منه. وفي قبلته إلى جهة الجنوب الغربي مسجد علي (ع)، ويليه إلى الشرق مسجد أبي بكر (رض). وهناك مساجد أخرى، أحدها يحمل اسم فاطمة الزهراء (ع)، يقال ان السيدة فاطمة بنت محمد كانت تنقل الزاد لأبيها وابن عمها علي في تلك الفترة، ويقول بعض المؤرخين انه مسجد سعد بن معاذ (رض) الذي استشهد من سهم أصابه في هذه الغزوة. كما يوجد مسجد باسم عمر (رض)، والمساجد الثلاثة الأخيرة يذهب الكاتب إلى استحداثها في عصور لاحقة، والله أعلم. وكل ما يهم الزائر أن يستنشق عبير الإسلام وينهل من أريجه بزيارة هذه الأماكن التاريخية الشامخة عبر العصور
العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ