العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ

فصل الألم

الأسماء:

بيننا ثلاثة أرواح...

غادرت أسماءها، تسابقت في ساحة الموت، تركت خطيئتها وانتخبت ما كنا نتناساه.

إخوة جاءوا مسرعين بنحيب الوقت، وقفنا في وجوههم،

احتوينا قناديلهم، تهنا في شطآنهم، وملنا معهم قليلا... قليلا، كيلا يطعنوا البيت بميراث العويل.

كلما جاءوا، خبأنا أسماءهم من ذلك الأبيض وهو يضرب بجناحيه فوق قبة اليأس. كان غادرا، ويشتد، ويخطف، ولا يهدأ حتى يصبيهم في قلوبهم فيتساقطون في ساحة الموت، تاركين لنا نشيد الأضرحة كي نحتفظ بالأسماء.

ثلاثة أسماء بلا دليل.

ونحن لا نحفظ.

كانوا،

مثل جمرة الروح ترفل في النسيان،

نذكر شكل الطريق وهو يبتعد عنا،

نراهم مثل سراب يمدح مراثينا ويرعانا، قطعان الظل

وقلب يفضح التفسير.

كانوا بيننا ينتهون ببطء ويميلون.

ينسلون من أفئدة البراويز التي تجمعنا معهم، وينسحبون.

يمسحون ابتسامتهم ويتركون رائحة الفقد كي نراها بيننا.

نطالع البرواز،

ثمة أشخاص غادروا الصورة.

هي الأسماء نعلقها فوق جدران المعبد

أرواح تتناسل

وتتركنا في الهذيان.

العطايا:

ولسوف يعطيك فترضى،

جنة الخلد، سماء النسيان، ضريح المعبد،

وكل شيء، كل شيء.

امض وسوف يعطيك

قلبا له الحكمة

وزادا له البطش

وعينا لها الرؤيا

وجسدا هو المقصد.

قف أمامه واطلب، ولسوف يعطيك

ماء الجنة ليس يشرب، وأنت في عطشك المحموم.

ثلاثة أيام والبحر أمامك.

اطلب ولسوف يعطيك

خبزة الليل، قصعة الفقير، قبلة المنسي، أحلام الكتاب.

اطلب.

بحث:

يسألونكم عنه،

قولوا: تركنا النصل يغور في القلب، يحفر لوردة البيت

أحزانها. نصلٌ بين هجير وصنو الحجر، يراوغ ما ضاع في الحدائق والحرائق. نصلٌ يهدهد الجراح، لا يكف عن العناق.

يسألونكم عنه،

فلا تقولوا: الأسماء مختومة بالألغاز.

نبدل كائننا وهو يرتحل في سماء الدم ليعطي للخليقة شكلها البهي.

الرضيعة:

سنة أخرى من الدم،

يشحذون الميراث ليتأملوا الرضيعة وهي تختزل حليبها المخبأ في الأواني النحاسية المرفوعة عن الصبية الذين يترعون الموج إلى باحة البيت متناسين رائحته، دمه المسفوك من الشاطئ على الطريق الترابي، بين الحجر والصّبان ومواعيد الصيادين الذي يعودون خائبين كل مساء، وفي سلالهم فضاء الصيد.

سنة أخرى للرضيعة وهي تفتكر درب العائلة بين أخ يجيء وآخر يغادر، بين دموع تسمع خطواتها وهي تنزل السلم الخشبي، حيث يجلس الأب الطاعن في الفقر، وأم تبيع الماء، وتغسل ملابس النساء المتزينات بالخلاخيل والبراقع.

يقول الأب لزوجته عند الفجر: ماذا لدينا للرضيعة؟ فتلف الأم تمرة في قماش وتدسها في فم الرضيعة وهي في المهد تنسج أحلاما لا تأتي.

يبحث الأب في النهارات عن سعف وخشب يقذف به البحر ليصنع منه جدارا يحمي البيت المتصدع، والرضيعة في مهب الريح تقصف بها فلا تبصر السنين القادمة.

رضيعة مثل الياسمين، تنثر الطيب في البيت فلا نراه.

مرضى على المائدة:

وضعونا على المائدة، نحن سلالة العائلة المصابة بالوهن. دقوا فصوص الثوم نيئا، مزجوه بنار زيت الزيتون حتى صار مرهما دافئا. مسحوا به على أجسادنا العارية وكلما انتهوا من واحد انتقلوا إلى الآخر.

نحن مرضى المائدة اليومية، يسقونا ملعقة صغيرة من زهر البابونج كل صباح. لم تنفع معنا أدوية أو أعشاب. جاءوا بالنار والحديد وكوونا بها، فلم نعثر على أجمل الفتيات في الحي، ولم تعثر الفتيات على أجملنا، مَنْ أجملنا؟

ماذا نقول لهذا الإنشاد اليومي على عتبات مائدة الطب، نخابر بعضنا كلما اشتد الألم ونتعاتب حينما نكتشف علاجا نتوهم به أحلاما جديدة، تأخذنا نحو مطالع الأبواب التي توصد عادة في وجوهنا.

كل يوم

كل صباح

تفتتح المائدة على جسد جديد منا، نقترب منه لننظر عجزه ووهنه وهو يختبر عصارات جديدة من حَبّ اليانسون، وثمار الخرنوب وقشر الرمان المجفف.

يخضع لاختبارات عله قبل أن يموت يوصلنا إلى حياة جديدة تمكننا من كسب سنين أخرى.

كل يوم

كل صباح

نعرف خفقان ثوب «النشل» وهو يرف فوق سطح الدار، نستبشر خيرا. نعدو تحت سماء الحي مرددين أغنية، تركض معنا في فضاء الخلوة التي نمل منها. فيفاجئوننا بصور لأطباء نزلوا الحي في حملة تطعيم جماعية. نسأل الخرافة عن حكايتنا التي استهلكها الألم الغريب، فيخبروننا عن هشاشة الحلم.

نحن مرضى الموائد العائلية التي تبسط كل أصناف الطعام والألم على بساط واحد يتيح للحي كله أن يرى ويستبصر ويتذوق ما يلذ له من جحيمنا المكابر. لنا رغبة وآدة: ألا يمر العذاب على أجسادنا إلا معطوفا ومنفردا. إلا مرهونا ومرتهنا بأول الفجر، بأول السفر.

نحن الرهان الأخير لمرضى العائلة البهية برحيلها المبكر. السلالة الحائرة بين قطفة الروح وقطفة القبل، ومعارك الجسد.

إبراهيم:

كان صغيرا كقطعة ثلج تذوب في الروح، هذا إبراهيم قلت لهم، دعوني أحمله كقطرات الندى، أحمله وأسير به بين قبور طاعنة في الحب وقبور مأسورة بالهذيان.

أحمله

هذا إبراهيم

مسرة الحياة الخاطفة الشوق

طعم أبيه، ومسلة العائلة.

أحمله نحو قبر يعد لنا فيه وجبة العشاء الأخير فيسألني:

إلى أين تأخذني يا عماه؟

إلى حيث نضع أحباءنا يا صغيري

وتتركني بعيدا عنكم؟

لا يا صغيري سنأتيك بالبيت كله

لا تتركني يا عماه

لن أتركك يا صغيري.

أحمله كخفة الطين في الخلق، كنسمة القبلات الأخيرة

التي نتركها حيث يغسل الجسد بالنشيد.

كن حاضرا معهم يا صغيري، كن سيدهم

ساعة انحساري عن رماد الأرض وهي تتشرب دمنا.

وصية:

سنقول:

خذه يا موسى

ارفعه

ليس لنا،

ليس لأمه،

ليس لهذه الأرض.

مرفوع فوق الختم،

فوق سجون الليل.

سنقول لموسى:

هذه وصاياك،

حبر الكتاب

وسفر الرؤيا.

خذه يا موسى،

ارفعه عاليا لنراه

عاليا يا موسى.

عاليا.

ماء السبيل:

نخرج مسرعين من ظهر أبي لنقطف العنف من شجرة الدار، ونزرع الياسمين قرب باب البيت ليمر العشاق ويقطفون أزهارهم وهم ذاهبون إلى مواعيدهم المؤجلة، في علاقات غير ناجعة. نتكاثر في حوض البيت، حيث تقذف بنا أمنا باطمئنان من دون حاجة إلى ولادة تساعدها على ذلك، نخرج أصحاء لكن ما نلبث أن نقع في صحون الأمراض الكثيرة المرصوصة في الصناديق التي يملأ بها أبي البيت. نحبو، نأكل التراب والصابون والحلوى البلدي، وكلما مات منا فرد، وضعت أمي ماء سبيل في ثوابه، تبكي مرددة:

- لقد مات عطشانا!

ما أدراك بذلك؟

- قلبي يحدثني.

وهل سيرويه هذا الماء السبيل الذي تضعينه على عتبة الباب ليشرب منه المارة.

- مات سيد الشهداء عطشانا، وكذلك أنتم تموتون.

هذا الماء لنا أيضا.

- لمن سبقكم ولمن سيسبقكم

فصل من نص جديد يصدر لاحقا، بعنوان «عطر أخير للعائلة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً