العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ

هل الحداثة الليبرالية سقف للمشروع النهضوي العربي؟

العرب والحداثة السياسية:

دمشق - تركي علي الربيعو 

تحديث: 12 مايو 2017

إذا كانت الليبرالية سقفا للتاريخ وللإنسان الأخير كما يذهب إلى ذلك فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير، 1993» وكذلك آخرون، فإن هناك في المقابل ميلا عند المثقفين العرب إلى جعل الليبرالية سقفا للمشروع النهضوي العربي بعد كل إخفاقاته، وكذلك نجاحاته التي يتحدث عنها محمد عابد الجابري في سعيه إلى تجاوز أيديولوجيا الإحباط؟

وفي الحقيقة فإن هذا الميل إلى الليبرالية يمثل حنينا إلى زمن مضى، إذ أن هناك إجماعا لدى أغلب المثقفين والسياسيين العرب على أن أواسط القرن الماضي قد شهد مدا ليبراليا قُدر له أن يغتال في فترة التحول من النهضة إلى الثورة، والتحول من الليبرالية السياسية والتعددية الحزبية والثقافية إلى الديمقراطية الاجتماعية التي تنادي بدكتاتورية الطبقة العاملة والحزب الواحد والقائد الكاريزمي الملهم والتي نظّر لها كثير من الباحثين والمفكرين العرب، في إطار مساعيهم الثورية الرامية إلى إجهاض المد الليبرالي بوصفه مدا بورجوازيا غربيا، وفي تنحية الليبرالي العربي الرافع لشعارات الحرية والديمقراطية والذي تبوأ مركز الصدارة في الأيديولوجيا العربية المعاصرة في أواسط القرن الماضي.

كانت الليبرالية السياسية أفقا وسقفا كما يقول محمد عابد الجابري، وكان هو من المعجبين بها والقائلين بضرورة الأخذ بها كما يذكر في كتابه «الديمقراطية وحقوق الإنسان، 1997» ولكن من دون أن يتجاهل مكر الخطاب الليبرالي ومآزق الليبرالي العربي وبعده السوسيولوجي الأقلياتي، الذي جعل خطابه السياسي خطابا غير مباشر، شيمته المكر والدهاء وممارسة السياسة في مكان آخر و(لغاية في نفس يعقوب) كما يرى الجابري.

على عكس الجابري، لم يهتم عبدالله العروي بالبعد السوسيولوجي للداعية الليبرالي العربي وذلك مع تركيزه وتشديده على البعد السوسيولوجي لداعية التقنية الذي هو في الأعم الغالب ابن أقلية أو صاحب دكان أو فلاح. كان العروي قد اختار الليبرالي لطفي السيد نموذجا للداعية الليبرالي المؤمن حتى العظم بأن تخلفنا الحضاري يرتد إلى استبداد قديم وموروث يقدم الطاعة على ما عداها، وأنه لابد من تجاوز الاستبداد باتجاه الحرية.

لم ينتقص العروي من خطاب الداعية الليبرالي الذي بدأ بالتراجع على إثر التحول الذي بدأت تشهده الدولة القومية العربية الساعية إلى ردم الهوة التكنولوجية الآخذة في الازدياد بينها وبين الغرب، والتحول الموازي من النهضة إلى الثورة والذي أسهم في إجهاض كل خطابات الليبرالي العربي. لكنه راح يرقب إخفاقات الثوري العربي والمثقف الثوري الذي نذره لعقلنة المجتمع العربي والنهوض به، والتي تتمثل في ذلك الطلاق بين الليبرالية والفكر التاريخي الثوري. فما لم نستلهم منجزات الليبرالية في الديمقراطية والتعددية لن نتمكن من إنجاز مهماتنا الحداثوية ولا النهضة بالمجتمع.

من وجهة نظر الجابري فإن خطاب الليبرالي العربي قد انطوى منذ البداية على مكر شديد، وعلى زيف أو التباس مصدره انقطاع العلاقة المباشرة بين الفكر وموضوعه، بين منطوق الخطاب ومضمونه في الأدبيات النهضوية العربية الحديثة والمعاصرة. على أن الأهم من كل ذلك هو البعد السوسيولوجي كما يرى الجابري، فيقول: إذا عدنا إلى النصف الثاني من القرن الماضي وبحثنا عن هوية الليبرالي العربي الاجتماعية والدينية، فإننا سنجده في الغالب من الرجال المتنورين في الأقليات الدينية، والمسيحية منها خصوصا. والمشكلة الحقيقية التي كان يعيشها آنذاك، في ظل الدولة العثمانية، هي المشكلة التي تعيشها كل أقلية دينية أو غير دينية في ظل حكم استبدادي، وقد فضَّل الليبرالي آنذاك توظيف شعار «العلمانية» بدل شعار «الديمقراطية»، ليس فقط لأنه كان يريد فصل، أو انفصال، العرب عن الترك وبناء الدولة القومية بدلا من الخلافة الإسلامية، بل أيضا ـ ولعل هذا هو السبب الدفين ـ لأن الديمقراطية تعني حكم «الغالبية» وبالتالي تهميش «الأقلية» التي كان منها أو «ينطق باسمها» - الخطاب العربي المعاصر .

في كتابه «العرب والحداثة السياسية، 1997» يتساءل كمال عبداللطيف: هل يجوز الحديث عن ليبرالية عربية؟ وخصوصا أن العقل السياسي العربي لم يتمكن من استيعاب مختلف أبعاد ومبادئ الحداثة السياسية في الفلسفة الليبرالية وذلك على رغم أن الفكر العربي المعاصر أنتج خطابا في الأيديولوجيا الليبرالية، وأنه تغذى بأمهات النصوص والطروحات والإشكاليات التي تبلورت في تاريخ المعتقد السياسي الليبرالي؟

من وجهة نظر كمال عبداللطيف فإنه على رغم تراجع المشروع السياسي الليبرالي في منتصف القرن الماضي، بحكم انتعاش الاختيارات السياسية ذات المنحى الاشتراكي في الأقطار العربية، فإن المشروع الليبرالي ظل قائما بصور وأشكال مختلفة، سواء في مستوى الوعي أو في مستوى الممارسة، إلى أن عاد إلى احتلال مركز الصدارة بعد فشل تجارب التطبيق الاشتراكي الفوقية. لقد عاد خطاب الليبرالية ليستأنف بناءه لمشروعٍ في الليبرالية العربية.

إن الشاهد العياني على عودة الزخم الليبرالي من وجهة نظره هي كثرة الندوات العربية والكتب والدوريات التي تنشد الليبرالية بداية وسقفا للمشروع النهضوي العربي المعاصر، والتي تسعى بكل جهودها إلى تأصيل السؤال النظري، وبناء الوعي المطابق والسعي إلى تجاوز آليات القصور النظري التي وسمت جهود رواد الفكر الليبرالي العربي، وهذا شاهد حي على تطور عميق في الوعي السياسي العربي الذي من شأنه ـ كما يرى عبداللطيف ـ أن يبعث الدفء إلى الخطاب السياسي العربي وأن يعيد الحيوية إلى مشروع متعثر؟

أعود إلى القول إنه إذا كان كمال عبداللطيف متفائلا بمستقبل الليبرالية في المنطقة العربية بعد فشل تجارب التحديث الراديكالية اليسارية، فإن هناك من لا يشاركه التفاؤل، وذلك لسببين أساسيين: الأول يتمثل في ارتباط الليبرالية بالمشروع الكولونيالي الغربي، وهذا يعني انحيازها الدائم لذلك المشروع وعدوانيته. والثاني أن الخطاب الليبرالي العربي بقي وباستمرار خطابا نخبويا حداثيا يتأسس على الضد من الأكثرية وتقاليدها التاريخية.

من هنا ينطلق منير شفيق «في الحداثة والخطاب الحداثي، 1999» إلى التشكيك بالحداثة الليبرالية الغربية التي تشكل بالنسبة إلى الخطاب الليبرالي العربي مرجعا ونموذجا للقياس. ومن وجهة نظره التي تعد امتدادا لطروحات اليسار العربي الراديكالي المعادي لليبرالية، أن الصخب الحداثي الليبرالي الذي يعده كمال عبداللطيف شاهدا على صحوة، هو ليس أكثر من صخب ليبرالي يظل شاهدا على ضعف وقصور ظلا يكتنفان المشروع الليبرالي العربي على طول مساره، وما العنف الذي يتمفصل مع الخطاب الليبرالي الحداثي إلا شاهدا على ذلك أيضا، على أن شاهده الأهم على قصور الليبرالي أنه مازال يستقي مرجعيته من أفكار يطرحها بعض المثقفين ممن يروجون لبضاعة فيها غش كبير على حد تعبيره. والنتيجة التي يخلص إليها منير شفيق أن الليبرالية وبجميع مستوياتها قد قامت على قمع الأكثرية وعزلها لصالح الأقلية المتفرنجة والتابعة.

في رأيي، ان الليبرالية باتت مطلبا ملحا للنخبة والجماهير وذلك بعيدا عن تحفظات منير شفيق ونزعته المحافظة والتشاؤمية، وهذا ما يترجمه الواقع العربي الثقافي والسياسي وحتى الاقتصادي. فالليبرالية في ظل انسداد الآفاق في المنطقة العربية لم تعد سما في الدسم بل سقفا لمشروع نهضوي نأمل جميعا في الوصول إليه





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً