إذا، باتت الحرب على العراق، على ما يبدو في حكم الواقعة. ليس بالضرورة لأن أميركا بوش تريدها وإرادتها لا ترد. لكن لأن الوقوف في وجه واشنطن كان على درجة من الرخاوة - خصوصا العربية - الكافية لتشجيع هذه الأخيرة على المضي في مخططها: ولتسهيل مهمتها في تسويق ذرائع واهية لعدوان مفتعل، أرادت به ان يكون المدخل لتصفية حسابات طويلة عريضة مع عموم المنطقة. وفيما تدخل الأزمة محطتها الأخيرة قبل الانفجار، يزداد المشهد المعارض للحرب تعاسة صفوفه تشهد المزيد من الانهيارات وتوفر النجاح لإدارة بوش في تلغيمها بنسفها من الداخل. وبذلك تراجعت أجواء المواجهة مع مشروع الحرب الجائرة وأصحابها، لتتحول بالنسبة إلى بعض المعترضين، إلى طلبات استعطاف بائسة.
لن تقدّم أو تؤخر. بل هي من شأنها أن تزيد من إصرار استئساد زمرة الحرب في واشنطن. ومن عزمها على توسيع دائرة الاستباحة في المنطقة. فعندما كانت الظروف من البداية، تسمح بتغليب التصدي لمشروع الحرب وتعزيز جبهته العالمية؛ من خلال اتخاذ قرارات وخطوات كبيرة ترفدها بعوامل القوة وتستقوي بها في الوقت ذاته، آنذاك اختار الوضع العربي العزوف عن مثل هذا التوجه واكتفى بالتعبير الخجول عن «رفض» الحرب؛ مع الحرص الشديد على عدم الوقوع في «خطأ الحسابات»، خوفا من استفزاز أو اغضاب واشنطن. حتى المشاركة في اجتماع يتيم كالذي حصل في اسطنبول لم ينعقد إلا بعد استمزاج رأي واشنطن بشأنه. ثم ألم يكن البيان الذي صدر عن ذلك الاجتماع الذي كان صدى تاما للموقف الأميركي وشروطه، بداية لانهيارات متلاحقة في جدار جبهة الاعتراض على الحرب؟ بعد ذلك توالى رحيل المفتشين الذين التحقوا بالخندق الأميركي تحت ستار تقرير بليكس وما جاء فيه من مزاعم عن عدم وجود تعاون عراقي تام مع فريق التفتيش. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطى الإشارة الصريحة عن عزمه على الانتقال إلى المعسكر الأميركي، عند التصويت قريبا على قرار جديد في مجلس الأمن، يجيز استخدام القوة. تبعته تركيا في الموافقة - بعد تردد مديد - على مرور 20 ألف جندي أميركي عبر حدودها إلى شمال العراق.
ثماني دول أوروبية رفعت أمس كتابا خطيا إلى واشنطن تؤكد فيه دخولها صراحة إلى بيت الطاعة الأميركية ووقوفها إلى جانبه في الحرب.
حتى اليابان كان تلميح أحد مسئولي الحزب الحاكم فيها - قبل يومين - صريحا عن نية طوكيو في الانضمام إلى الركب الأميركي، عندما تنشب الحرب.
والحبل على الجرار
بذلك لم يبقَ في الميدان إلا فرنسا وألمانيا بصوت معارض مسموع والصين بصوت خافت. الثانية لا تملك صلاحية «الفيتو» في مجلس الأمن. الثالثة، ليس من المتوقع ان تستخدم هذا الحق. تبقى الأولى، التي لو بقيت على عنادها في رفض الحرب، فإنها لن تلجأ إلى «الفيتو» لوحدها. شيراك ليس ديغول. ولاسيما ان واشنطن نجحت في تفكيك الموقف الأوروبي الذي أدى إلى انشقاق الثمانية دفعة أولى.
على هذا صارت الساحة جاهزة لتمرير قرار ثان في مجلس الأمن، يعطي الضوء الأخضر للحملة العسكرية الأميركية. الوزير كولن باول يعتزم مفاتحة المجلس بمثل هذا القرار، على قاعدة ما تزعم الإدارة حوزته من «أدلة جديدة» على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. وكانت بعض التقارير والمصادر أشارت إلى ان هذه «الأدلة» لن تتعدى صورا التقطتها الأقمار الاصطناعية، لعمليات نقل وتفريغ تقوم بها شاحنات كبيرة انطلاقا من منشآت كانت في السابق تستخدم لأغراض التسليح وتصنيعه. كما تردد ان الوزير يحمل تسجيلات لمكالمات ومحادثات بين جهات عراقية، تم التنصت عليها والتقاطها، وانها تكشف عن وجود برامج أسلحة في العراق.
لكن بصرف النظر عما في جعبة الوزير باول، فإن ما سيطرحه أمام مجلس الأمن لن يكون أكثر من تخريجة لاستصدار القرار. فلو كان بيد إدارة بوش مستمسكات دامغة ثابتة لما نامت عليها حتى الآن. على الأقل كان من المفروض ان تعرضها على الكونغرس، الذي أبدى بعض أركانه، خلال اليومين الماضيين، وبالصوت العالي، ارتيابهم بالمسوغات التي تزعم الإدارة امتلاكها. ومنهم - السناتور كينيدي - الذي يعتزم طرح مشروع قانون أمام الكونغرس يفرض على الرئيس بوش الرجوع إلى هذا الأخير لأخذ موافقته قبل الشروع في أي عمل عسكري ضد العراق، علما بأنه سبق للكونغرس ان أعطى الرئيس تفويضا في هذا الخصوص، قبل أقل من ثلاثة أشهر. فلو لم يكن هذا السناتور وغيره - من الديمقراطيين والجمهوريين - مطلعين على حقيقة نوايا إدارة بوش وهشاشة مزاعم حربها، لما قام بمثل هذه الحركة الاعتراضية، ثم لو كان بيد واشنطن مثل هذه الأدلة فعلا، فلماذا لا تعطيها إلى فريق التفتيش، الذي كرر مطالبتها وبإلحاح لتسليمه ما بحوزتها من معلومات، كي يقوم بضبط الأسلحة ومنشآتها وبالتالي ضبط العراق بالجرم المشهود؟ ألا تزعم هي ان الغاية والهدف الأخير هو تجريد العراق من أسلحته؟ إذا لماذا لا تساعد على إنجاز هذه المهمة؟
إدارة بوش عملت من الحبة قبة. ونجحت في ذلك، في البداية مررت القرار 1441 الملغوم، الذي قطفت ثمرته في تقرير بليكس الأخير. ثم حولت التركيز من موضوع التعاون إلى موضوع الاعتراف والإثبات. فالعراق لم يعد كافيا ان يفتح أبوابه كافة للتفتيش، بل صار عليه بحسب التفسير الملتوي لمطلب التعاون، الاعتراف والإقرار بوجود أسلحة دمار أو بموادها ومنشآتها مع تقديم الأدلة على ما تم تدميره منها إذا كان هناك تدمير، وعندئذ يقوم فريق التفتيش بالتأكد من ذلك. وهذا هو التعجيز بعينه.
بعد ذلك بدأت واشنطن حملة إعلامية دبلوماسية، حققت من خلالها أكثر من هدف: استمالت موسكو، زادت من تحييد الصين - وخصوصا ببلع التحدي الكوري الشمالي - شقت الموقف الأوروبي، وطبعا كانت ولاتزال متفوقة في تعطيل أي اعتراض عربي فعال، بل في تلغيمه وتقسيمه بين متحالف معها وبين رافض متضرر لكنه قد لا يصمد في رفضه عندما تحين ساعة الصفر، وبين ساكت لا ينشد سوى حفظ الرأس.
على هذه الخلفية سيدخل الوزير باول قاعة مجلس الأمن يوم الأربعاء وبيده مشروع قرار تم صوغه في خلوة واشنطن بين بوش وبلير وكبار معاونيهما - محشو بالتلفيق والمبالغة، وفيه إنذار أخير للعراق لمدة أسبوعين أو ثلاثة، بحيث يتوافق ذلك مع الموعد المفضل للقوات الأميركية لبدء عملياتها، وطبعا القرار العتيد المقبل لن يكون ملغوما فقط مثل سلفه 1441 بل هذه المرة مجهز بصاعق تفجير. «فوقت العمل الدبلوماسي قد انتهى تقريبا، على حد تعبير السفير الأميركي في الأمم المتحدة. وهو لا «يهبّط حيطانه»، بل يمهد لما هو آت. ولماذا لا، إذا كان لم يبقَ في هذا العالم سوى صوت واحد هادر ضد حرب أميركا على العراق: نيلسون مانديلا وصوتين آخرين متمردين، شرودر وشيراك، وقد لا يصمد الثاني إلى آخر الشوط؟ لماذا لا وفريق الكواسر الحاكم في واشنطن يرى أمامه عالما يذعن لطروحاته وتسويغاته المنفوخة والمزورة؟
لكن هل لتراخي أهل البيت العربي ضلع في هذا الرضوخ؟
سؤال بسيط: لو وقف العرب من الأساس ملوحين بكل الأوراق وعلى رأسها النفط، فهل كان الموقف الأميركي بهذا الاستئساد والموقف الدولي بهذا التراجع؟ لا يهدد العرب بالنفط؟ لماذا؟
كيف يجوز لأميركا أن تهدد بالسلاح النووي - لدك وتدمير مراكز القيادة تحت الأرض في بغداد - ولا يجوز للعربي التهديد بسلاح النفط؟ أيهما أشد أذى وخطورة؟ كيف يجوز للآخر اللجوء إلى كل ما ملكت يداه في معركته ولا يسمح المستهدف لنفسه توظيف كل ما في حوزته، لرد سيف النقمة عن رقبته؟
إلا إذا كان الاعتقاد السائد بأن العراق وحده هو المستهدف وليس غيره في المنطقة. عندئذ وبعد ان تقع الواقعة، سيكتشف أصحاب هذه المدرسة السياسية انهم وقعوا في خطأ مزدوج قاتل: مرة عندما توهموا انهم غير معنيين ومرة عندما ترددوا وعزفوا عن زج كل إمكاناتهم في المعركة
العدد 152 - الثلثاء 04 فبراير 2003م الموافق 02 ذي الحجة 1423هـ