قد يُقنع البحريني بأن يعيش بلا خبز، قد يرضى لنفسه أن يكون بلا مأوى، قد يتحمل عض المنافي لكنه من المستحيل أبدا أن يقنع نفسه بأن يعيش بلا بحر وخصوصا أبناء السواحل البحرية وكلنا أبناؤها بيْد ان من تدثر بأمواج البحر ذات يومٍ وعشق زرقته ومن قرأ على هامته ذكريات أجداده لا يمكن أبدا أن يعيش من دونه. إن أردنا أن نلغي مجتمعا بأكمله علينا أن نجفف سواحله وتلك هي قناعتي: فالموت الحقيقي لابناء المنطقة الغربية والشرقية والشمالية هو موت بحرهم او اغتياله او فرض الإقامة الجبرية عليه.
فالمنطقة الغربية لم يبقَ لها إلا طريق واحد لتعانق البحر في كل صباح، بمتنفس بسيط من جهة منطقة (المالكية) وهو المتنفس الوحيد والبصيص الأخير للنور المتبقي لهذه الوحشة المعتمة الملقاة على سواحل البحرين فان كسر هذا المصباح فسيموت الناس حزنا على فراق هذا البحر.
ليس من المنطق أبدا بعد هذا التاريخ الطويل الذي عاشه أهل البحرين من علاقة محبة وتواد مع البحر ان يستيقظوا ذات صباح ليكتشفوا ان سواحله وزعت بنظام «الكوتة» على الأغنياء والمسئولين وحتى رجال الأعمال الخليجيين. بعض الخليجيين تستلقى فللهم على كتف البحر وأبناء البلد الفقراء ينظرون إلى البحر بعينٍ ملؤها الحزن والألم.
نعم لم يبقَ لنا إلا البحر نشكو له همومنا وندفن في صدره أوجاع الزمن والفاقة فليس من الإنصاف أن نقرأ عليه الفاتحة ونحن نراه كما هو حال الشاطئ الساحلي لمنطقة باربار كيف تم تكفينه ولم يبق إلا الصلاة عليه ليرى الفقراء كيف يباع البحر بالقطعة وهو ملك عام يتساوى في ملكة الفقير والغني فحتى البحر خصص في ظل انتشار مبادئ الخصخصة اللعينة وحرمت منه الطبقة الدنيا. فهل يأتي زمن لا يستطيع فيه البحريني السلام على بحر أجداد الغوص والذكريات المعطرة بالسنونو والنورس إلا من خلال فنادق الخمس نجوم أو بصورة فوتغرافية أخذها ذات صباح لتكون بديلا عن الحقيقة. شاء القدر أن أتعطر ذات ليل ببحر المنطقة الغربية وذهبت - كما هو عادة أهل القرى الغربية - في مدخل يتيم واحد هو في طور الاغتيال أيضا. الشارع مليء بالعتمة، ووجدت أناسا ينظرون الى الساحل وكأنهم في طريقهم الى يتم اللقاء لأبٍ لن يروه ذات صباح إذا ما كتب الوزير بقرار غير مسئول ووضع اللافتة البائسة المشهورة: «ممنوع الاقتراب هذا ملك خاص».
على زحمة الساحل هناك العشرات من القوارب الصغيرة المتواضعة متكدسة على بعضها لمواطنين وضعوا رزقهم ومصير العشرات من أبنائهم على هذه القوارب غير عابئين بخطر البحر وغدره لأن الزمن والفقر وشظف الحياة اقنعتهم بمفهوم بحري قديم.
وفي جو جنائزي كئيب تفوح منه رائحة الموت والندم والحسرة أيضا سمعت تنهيدة شيخ عجوز يدعى أبو أحمد وهو من الذين عشقوا البحر وحفروا على محياه ذكريات الطفولة الملونة بنكهة الغوص وطعم تاريخ الأجداد قال لي على سجيته عندما رآني ساخطا على تلك المحاولات البائسة لقطع آخر شريانٍ للمنطقة يوصلهم إلى البحر قال لي:«يا ابني: ألا يشعرون بحجم الفجيعة التي ستحدث لو قطع هذا الشريان الأخير؟... أين نذهب؟ الى من نشكو همومنا، كيف نطعم أبناءنا؟ أين نذهب إذا اشتقنا لرؤية هذا البحر الجميل؟ هل يمكن للذاكرة ان تلغى بقرار رسمي رتيب؟
كل المسئولين يعلمون أننا إذا بقينا بلا بحر سنموت موتا بطيئا وستفتك بنا الأمراض النفسية، لم يبق لنا إلا هذا المنفذ وهو بمثابة الرئة التي نتنفس منها فكيف سنعيش لو استأصلوا هذا العرق المتبقي لرئتي البحر الكامل لهذه الجزيرة اللتين وزعتا على الفنادق والنوادي البحرية وغيرها؟ ألن نموت اختناقا؟ ثم قال على سجيته ولن أجد تصويرا أبلغ في المعنى والعاطفة من هذا التصوير والشعور، قال: «هل تعلم يا ابني أنني في اليوم الذي لا أرى فيه هذا البحر قد أمرض... نحن أبناء السواحل تقتلنا الغربة عندما نفكر في البحر فكيف لو عشنا بقربه ولكنا لا نراه؟».
لا يمكن ان يقبل هذا الوضع ان يحرم الآلاف من المواطنين من سواحلهم كي ينعم بها تاجر هنا ومتنفذ هناك استغل نوم الوزير فراح يسرح ويمرح ويقتطع الأراضي. وهذه ليست قناعتي وإنما قناعة كل أبناء السواحل المهددة بالخطف من قبل رجال الأعمال، لذلك نحن نهيب بالمسئولين وعلى رأسهم جلالة الملك بالتدخل لمنع مثل هؤلاء الارستقراطيين الذين بلغت بهم الأنانية باستئثار كل شيءٍ حتى الطبيعة والبحر الذين خلقهما الله لبني البشر كافة.
لقد قرأت في عيون أبناء المنطقة الغربية وكل ساحل مهدد بالاختطاف حزنا ووجعا واحتقانا لا يمكن ان يوصف بالكلمات وكلهم أجمعوا بعدم الرضا عما يحدث بأن يحرموا من هذا الشريان الوحيد. فهم في طور كتابة عريضة احتجاج على هؤلاء المقامرين والمحتكرين للبحر يقدمها التماس الى جلالة الملك بالتدخل فهو الذي علمهم ان يكون لهم الأب والقلب العطوف ساعة تعرض مصالحهم للخطر.
وهنا أتساءل: أين هم نواب المناطق الساحلية من فضح هذه العملية الاستئصالية لهذا الشريان المتبقي لهذا البحر؟ ان من حقهم عليكم ان ترفعوا حزنهم الى المسئولين وان توصلوا الكلمة من دون حرج فهذا أول اختبار لكم أمام من انتخبوكم. لو كانت القضية في يد نائب كويتي لأصبحت هناك فضيحة بيئية كبرى ووصلت الى جميع أنحاء العالم. وعلى أهل هذه المناطق ان يضغطوا على نوابهم للتحرك وان لا يقبلوا بأي تفاوض يمنعهم من رؤية البحر فلا يمكن ان يبرر أي موقف يحول بينهم وبين بحرهم.
وأنا على يقينٍ ان هناك نوابا لن يألوا جهدا في الدفاع عن سواحل البحرين ستكون القضية حاضرة في أدبيات وحوارات وشكاوى الجميع.
يجب ألا تبقى أية مؤسسة مدنية صامتة، فعلى المؤسسات المدنية ان تقول كلمتها وعلى نادي شهركان أو المناطق الغربية ان ترفع صوتها عاليا عبر البرلمان او الاتصال بنوابه او نواب المجلس البلدي او عبر الصحافة بأنه لا يمكن القبول بأية صورة من صور حرمان المواطنين من سواحلهم ويكون على سلم الأولويات لهذه المشكلة القرار الجائر بإلغاء هذا المنفذ الوحيد.
ونحن نتساءل أين هو وزير البلديات والزراعة من كل ما يحدث؟ وهو شهد عملية احتكار البحر في كل منطقة ومكان، فالمنطقة الوسطى هي أيضا كانت تعاني من المشكلة ذاتها فلم يبق لها إلا منفذ واحد ضيق وأصحاب البيوت والفلل من التجار ملكوا الأرض والبحر ولا يوجد دولة في العالم تسمح لمن يبني بيتا أن يملك البحر المطل عليه لأنه حق عام لا يمكن ان يفرط فيه بملكية خاصة وخيرا فعل أهل باربار عندما وقفوا هذا الموقف الوطني الشجاع ضد أية عملية احتكارية لبحرهم فليس من حق أي تاجرٍ ان يستولي على البحر
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 152 - الثلثاء 04 فبراير 2003م الموافق 02 ذي الحجة 1423هـ