يظل السؤال الحائر مطروحا بشدة ـ وخصوصا منذ هجمات سبتمبر/ أيلول الدامية ـ لماذا الكراهية كامنة تحت الجلد على الناحيتين... هم يسألون: لماذا يكرهننا العرب والمسلمون إلى هذا الحد؟ ونحن بدورنا نسأل أيضا: لماذا يكرهنا الأميركيون وبعض الأوروبيين إلى هذا الحد؟
لذلك فالأمر يحتاج منا ومنهم إلى مراجعات نقدية ضرورية، تبحث في الجذور والأصول، في الأسباب والنتائج، في الحاضر والمستقبل، قبل أن ينفلت الزمام، فيتحول الأمر إلى حروب دينية ـ للأسف ـ وإلى صدام حضارات ثقيل وخطير، لن ينجو من مخاطره المدمرة أحد في الشرق أو في الغرب.
وحين نعود إلى الجذور والأصول، ندرك أن معظم العرب والمسلمين، لم يحملوا عداء أو كراهية ـ تحت الجلد أو فوقه ـ للأميركيين، على عكس العداء والكراهية التي حملوها للمستعمر الأوروبي القديم وخصوصا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وفي حين تعرف العرب على أميركا الدولة الديمقراطية صاحبة مبادئ الحريات وحقوق الإنسان والفرص المتكافئة والقيم والإنجازات العلمية والاقتصادية والتكنولوجية، وخصوصا منذ منتصف القرن الماضي، فإنهم أحبوا الحلم الأميركي بجنته الجديدة وفردوسه المقيم، الذي لم يصطدم بهم عسكريا أو استعماريا.
بل إننا جميعا تطلعنا إلى أميركا في أقصى الغرب، لإنقاذنا من براثين الاستعمار والقهر والاستنزاف والإفساد الذي جاء به الغرب من خلال الاحتلال المباشر، ولم تجد البعثات الدينية التبشيرية والتعليمية الأميركية التي أتت إلى المنطقة منذ منتصف القرن الثامن عشر، عداء وكراهية ورفضا، كما وجدت مثيلاتها الأوروبية.
لكن أميركا المطهرة صاحبة القيم النبيلة والرسالة التبشيرية بالحرية والعدل والمساواة، تغيرت بعد الحرب العالمية الثانية، لتصبح أميركا الدولة العظمى صاحبة المصالح الحيوية والسياسات الاستعمارية الجديدة، والاستنزاف الاقتصادي والنفطي، حامية النظم الحاكمة التي تحرس كل هذه المصالح، على رغم علمها بأنها نظم فاسدة ومنغلقة ومعادية للحداثة والتطور والديمقراطية.
ثم بالغت أميركا الجديدة في تناقضها مع تطلعات شعوبنا ومعاداة حقوقها، حين أصبحت حامية «إسرائيل» والمدافعة الأشد عن الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والداعم الرئيسي لتوسعه عبر الحدود العربية، وصولا إلى التحدي المطلق ليس فقط لمشاعر العرب والمسلمين، بل حتى لقرارات الأمم المتحدة ذاتها...
فهل بعد ذلك مطلوب من العرب والمسلمين أن يحبوا أميركا ولا يكرهوا سياستها؟... هل مطلوب أن يغير العرب والمسلمون مواقفهم ـ بعد المراجعة ـ ليقلبوا الحق باطلا، ويقبلوا الظلم والقهر والانحياز والعدوان والاستعمار والحرب الأميركية الصهيونية، حتى ترضى عنهم أميركا؟ أم أن المطلوب حقا أن يغير الأميركيون سياساتهم العرجاء والمنحازة، حتى نحبهم من جديد ونعاود احترام مبادئهم وقيمهم!
لذلك قلنا في الماضي وسنقول في المستقبل إن الكراهية تحت الجلد متبادلة ولها أسباب وجذور، وأهم أسبابها من ناحيتنا على الأقل يكمن في عنصرين، أولهما هذا الهجوم الأميركي الطاغي علينا، عسكريا واقتصاديا وإعلاميا وثقافيا ونفسيا، وصولا إلى اتهام جميع العرب والمسلمين بالإرهاب والتخلف والتطرف، بل واتهام الإسلام بأنه دين غير سماوي قام على الغزو والقهر والسبي والتعصب، ومن ثم وجب الصدام معه ومع معتنقيه لإخراجهم من الكفر إلى الإيمان!
وثانيهما هو «إسرائيل»، عقدة العلاقات العربية الأميركية في الماضي والحاضر والمستقبل، ذلك أنها تمارس العدوان وتثير الحرب والاضطراب في الشرق الأوسط، تحت غطاء أميركي سافر لا يتوانى عن خوض الحرب مباشرة إلى جانبها ودفاعا عن غطرستها ووحشيتها، من دون كثير اعتبار لحقيقة المصالح الحيوية والعلاقات الاستراتيجية التي تربط أميركا بالعرب...
هذه إذن هي العقدة الأهم والأخطر في العلاقات العربية ـ الأميركية غير المتوازنة، إنها «إسرائيل» والصهيونية العالمية، التي تتخذ من أميركا قاعدة لها. ولن تحل العقدة إلا بتعديلات جذرية في السياسات الأميركية، توقف الانحياز وتخفف العداء والكراهية، لكي تتوقف على الناحية الأخرى، الكراهية المضادة من ناحية، وكذلك بتعديلات جذرية وإصلاحات ضرورية في السياسات العربية والإسلامية، ترفع شأن الاستقلالية والكرامة الوطنية والقومية، وتعلي قيمة القرار المستقل، وترفع القدرات العربية في التطوير الديمقراطي والإصلاح السياسي الثقافي من ناحية أخرى.
ومن دون هذا التوازن في العمل، ومن دون مبادرات من الطرفين، ومن دون إصلاحات ومراجعات نقدية ضرورية، في الفكر والثقافة السائدة، وفي السياسات المطبقة، وخصوصا من جانب أميركا التي تتحمل بصفتها القوة العظمى المنفردة في عالم اليوم المسئولية الأعظم سياسيا وأدبيا وأخلاقيا، لن نستطيع أن نوقف موجات الكراهية التي تتراكم تحت الجلد، فتتسلل إلى المسام عبر الدم الجاري في العروق النافرة!
نعم، نحن يجب أن نعمل ونجتهد ونصر ونطالب بإصلاح أحوالنا الداخلية وتقويم إعوجاجنا، ومحاربة فسادنا وفقرنا وجهلنا واستبدادنا، لأن ذلك يلبي حاجة وطنية وضرورة قومية ودينية أيضا، وليس خضوعا لإرادة أميركية، ولكن على أميركا خصوصا والعرب عموما تحمل مسئوليتهم المقابلة، فهم يتحملون مسئولية رئيسية فيما وصل إليه حالنا من تخلف وفقر وظلم وقهر، لأنهم استعمرونا طويلا وأفسدونا كثيرا ونهبونا على الدوام، سواء مباشرة أو عن طريق حمايتهم لنظم سياسية وافقت هواهم وحمت مصالحهم، فنسي الغرب بما فيه أميركا، كل المبادئ الأخلاقية والدينية والسياسية الداعية إلى الحرية والتقدم والعدل والمساواة.
وبمثل ما ننقد أنفسنا ونسعى إلى إصلاح أحوالنا ونرشد مواقفنا، حتى عداءنا للسياسات الأميركية والأوروبية، أملا في مقاومة تراكم الكراهية تحت الجلد التي تنتج العداء العميق لهذه السياسات، فإن من واجبهم هم أيضا نقد سياساتهم وإصلاح عيوبهم وتقويم إعوجاجهم وانحيازاتهم، ومحاربة ذلك الخطاب السياسي الديني الإعلامي الداعي إلى كراهية الإسلام والمسلمين والعرب والعروبة، وهو للأسف الخطاب السائد الطاغي الآن في الفضاء الأميركي خصوصا، تحت راية محاربة الإرهاب الإسلامي والتخلف العربي، والمنادي بضرورة إدخال هؤلاء القوم جميعا مدارس تحفيظ الديمقراطية الغربية، بدلا من مدارس تحفيظ القرآن الكريم وتعليم اللغة والثقافة العربية التي يطالبون بإغلاقها!
في هذا السياق انظر إلى هذه اللهجة الاستخفافية والفكر الاستعلائي، الذي تحدث به حديثا المفكر والمؤرخ الأميركي الشهير «برنارد لويس»، الذي فرض نفسه شارحا للإسلام ومفسرا لشئون المسلمين وعالما ببواطن أمور العرب، حين اختصر أسباب العداء العربي ـ الإسلامي للغرب عموما وأميركا خصوصا بالادعاء، بأن هؤلاء تعودوا البحث عن كبش فداء ومشجب سهل يعلقون عليه فشلهم في التقدم وإحباطهم التاريخي، بعد تحولهم من حضارة كبرى إلى دول فقيرة جاهلة محكومة بالاستبداد القبلي، ولم يجدوا سوى كلمة الاستعمار، بدءا بالغزو المغولي فالتركي فالبريطاني والفرنسي، والآن أميركا هي هدفهم الذي يصوبون عليه، ويتهمونها بأنها سبب كل ما يعانونه من مصاعب ومتاعب، بينما لم يستطيعوا النظر في دواخلهم.
هكذا ببساطة يبرئ هذا المؤرخ الاستعمار الغربي والهيمنة الأميركية من كل عيب ويعفيها من كل مسئولية؛ ويلقي بأسباب الكراهية علينا وحدنا!!
ثم انظر بعد ذلك في أساليب المسارعة بتطبيق هذا «الفكر» التحريضي وهذا الخطاب الكاره، حين يتحول إلى عمل وممارسة سياسية باسم البحث والدراسة، على أيدي غلاة اليمين الديني السياسي المعادي للإسلام والعروبة، ففي الخامس عشر من فبراير/ شباط الجاري 2003، يعقد «التحالف المسيحي» والمنظمة اليمينية الأميركية المتطرفة، مؤتمرا في واشنطن عن الإسلام وعلاقته بالمسيحية واليهودية.
وعلى رغم أن الفكرة في حد ذاتها يمكن أن تكون مقبولة، حتى لو جاءت من هذه المنظمة المشهورة بعدائها وكراهيتها، فإن الأمر يتضح سريعا حين نعرف أن المتحدثين الثلاثة في المؤتمر المزمع هم من غلاة المعادين المحرضين الكارهين، وهم دانيال بيبس، وجوزيف فرح، ولبيب ميخائيل الكاتب في صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، ولا أحد غير الثلاثة وخصوصا من الجانب المقابل، سيتحدث في مؤتمر الكراهية هذا، حتى من باب ادعاء التوازن والموضوعية والبحث عن الحقيقة.
وحين نعرف أن «روبرتا كومس» رئيسة التحالف المسيحي، تقول إن هدف المؤتمر هو توعية المسيحيين واليهود وكل الأميركيين بطبيعة الإسلام المعادية، ندرك لماذا اختارت المتحدثين الثلاثة وكيف انتقتهم من بين الملايين، وحين نعرف أن جوزيف فرح قال علنا: إن الإسلام يصر على الحرب المستمرة منذ أكثر من ألف سنة ضد المسيحية واليهودية وسيظل كذلك إلى أن يتم قهره بالقوة...
وحين نقرأ بعض أفكار لبيب ميخائيل، التي يقول فيها نصا: إن المجتمع الذي أسسه محمد بقرآنه، يقوم على الكراهية وسفك الدماء ومصادرة الحريات وممارسة الوحشية، لأنه يقر العنف والعنصرية والإرهاب وقتل المسيحيين واليهود باسم الله...
أما حين نعرف أفكار ثالث الأثافي ـ دانيال بيبس، التي تحرض حتى ضد المسلمين الأميركيين في اعتبارهم خطرا يهدد المسيحيين واليهود الأميركيين، ندرك ما سيأتي به «مؤتمر الكراهية» هذا، نموذجا لخطاب الكراهية والعداء والتحريض الذي تحمله الرياح المقبلة من هناك.
وحتما فإن الكراهية تولد كراهية مضادة، فلماذا لا يراجع كل طرف نفسه وأفكاره ودعاياته!
هذه هي دعوتنا إلى من يهمه الأمر
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 152 - الثلثاء 04 فبراير 2003م الموافق 02 ذي الحجة 1423هـ