المعارضة العراقية، وبعد سنوات طويلة في المهجر، بحاجة إلى مراجعة نفسها بصورة دقيقة وحرجة أيضا. فالحوادث التي مرت بها العراق منذ تسلم حزب البعث الحكم في نهاية الستينات وثم تسلم الرئيس العراقي صدام حسين قيادة البلاد شهدت تغييرات جوهرية على جميع المستويات ادت إلى انتهاء المعارضة باعتبارها دورا فاعلا على الساحة العراقية.
عندما وصل البعث إلى السلطة كان واضحا أثر الفهم الصارم لدور الدولة، وهذا الفهم استلهموه من الثقافة الفرنسية كون الحزب تأسس في مقاهي فرنسا، وخلطوا ذلك بالفهم الشمولي لدور الحزب في الدولة والمجتمع، بل ان الحزب اصبح هو الاساس في كل شيء، وكل امكانات الدولة تم تسخيرها لتنظيم الصغار والشباب والكبار في حزب البعث. فالمدرسة هي احدى اماكن تنظيم الصغار الذين يجب عليهم كتابة تقارير عن كل شيء يرونه في المنزل وخارج المنزل. وهكذا اصبح الوالد يخاف من ولده والام تخاف من بنتها. ومنذ اليوم الأول لوصول حزب البعث إلى السلطة كان واضحا لديه مصادر المعارضة. فالعشائر العراقية والمؤسسة الدينية والاحزاب السياسية الاخرى تم «تأديبها» بطريقة ما.
فلقد قام الحزب باتهام كبار الشخصيات من العشائر واتهم السيد مهدي ابن المرجع الديني السيد محسن الحكيم بالعمالة إلى تركيا (في نهاية الستينات كان النظام يتهم معارضيه بالعمالة إلى تركيا) وتم اعدام عدد كبير منهم وتشريد آخرين من ضمنهم السيد مهدي الحكيم. وقد كان ذلك العمل جريئا جدا.
وفي منتصف السبعينات أعدم عددا من قادة حزب الدعوة الاسلامية، تم انقلب على الحزب الشيوعي وصفاه، وبعد ذلك استهدف اي شخص يتجرأ على الحزب او النظام ووصلت ايدي النظام الى الدول الخليجية وكراتشي وباريس ولبنان وغيرها لاغتيال اي شخص يتجرأ على النظام. ومع وصول الرئيس العراقي للحكم في العام 1979م باشر بتصفية الامام محمد باقر الصدر ومئة من قيادات الحركة الاسلامية العراقية خلال ايام معدودة من تسلمه الحكم. ومنذ تلك الضربة شبه القاضية والمعارضة العراقية تبحث عن دور حقيقي وعن قاعدة حقيقية وعن منهج واقعي.
غير ان المعارضة العراقية تشتتت في ايران وسورية ولبنان وثم في لندن وبقية الدول الاوروبية واخيرا في اميركا. وفي سنوات الضياع الأولى (مطلع الثمانينات) كانت فصائل المعارضة العراقية تتنابز بالألقاب بين بعضها بعضا، وكان كلما سقط قتيل في السجن تصدر عدة منشورات في آن واحد، كل منظمة وكل حزب وكل حركة تدعي ان القتيل هو أحد اعضائها المرموقين. وهكذا تحولت المعارضة العراقية إلى التسابق في عدد الاموات مصداقا للآية الكريمة «الهكم التكاثر، حتى زرتم المقابر» (التكاثر، 1و2)... ومنذ ذلك الوقت والجرح العراقي ينزف من دون توقف ومن دون وجود أرضية او معالجة واقعية لأن كل ذلك اصبح من المستحيلات نظرا إلى البطش السلطوي من جانب والضياع الفكري والمنهجي للمعارضة من جانب آخر.
المعارضة العراقية، بجميع فصائلها، كانت لها فروع في دول الخليج. فحزب الدعوة له فروع ومنظمة العمل لها فروع والحزب الشيوعي له اصدقاء، ولكن ضياع المعارضة العراقية ادى إلى انفصال تلك الفروع بعد ان ورثت عددا من مشكلات المعارضة العراقية. ومع الايام انتهى ذكر المعارضة العراقية وذهبت اسماء رموزها في طي النسيان وتفتتت الاحزاب إلى فروع والفروع إلى تفرعات والتفرعات إلى أشخاص، وكل شخص يدعي وصلا بليلى، ولكن في النهاية اصبحت القضية العراقية آخر هم لديهم، وما يحدث في العراق لا يعنيهم سوى دغدغة وإثارة بعض الاحاسيس القديمة التي بدأت تنتهي مع الايام.
انتهى دور المعارضة العراقية وضاع مع الزمن، ولكن الولايات المتحدة الاميركية احتاجت إلى شيء اسمه معارضة، ما حدا بها لترغيب بعض الاشخاص هنا وهناك وتمويل مكاتب في واشنطن ولندن واقامة مؤتمرات في لندن ونيويورك والاتصال بكل الفئات في محاولة لجمعها وتوحيدها. وهكذا اصبح العامل الوحيد الذي يستطيع جمع العراقيين تحت سقف واحد هو الاميركان فقط. فالعراقيون فشلوا في الاجتماع فيما بينهم، وكل دول الجوار المحيطة بالعراق فشلت في جمع الأطراف العراقية لكثرة التناقضات بينها. والاكراد لديهم فصيلان يقتتلان باستمرار ولم يستطع احد إيقافهما عن الاقتتال قبل عدة سنوات إلا الاميركان. اما المجلس الاسلامي الأعلى للثورة الاسلامية الذي كان من المفترض ان يجمع جميع الفصائل الاسلامية الشيعية وحصل على دعم مباشر من الجمهورية الاسلامية الايرانية واستطاع تكوين افضل جهاز عسكري مدرب (قوات بدر) فقد انتهى الامر به ايضا إلى الخلافات الداخلية وخروج الفصائل الواحد تلو الآخر ويدور الآن حديث عن احتمال نقله إلى الكويت فيما لو تعقدت الامور مع اميركا اكثر.
المعارضة العراقية ضاع دورها بسبب الاضطهاد والبطش وبسبب تفرقها الداخلي، ولكن هذا الدور الضائع من الافضل ان يبقى ضائعا ولا يتحول إلى احدى وسائل الغزو الاميركي للعراق
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 152 - الثلثاء 04 فبراير 2003م الموافق 02 ذي الحجة 1423هـ