«الحركات الإسلامية المعتدلة» مصطلح ليس جديدا لكنه أصبح أكثر رواجا خلال الأشهر الأخيرة، إذ تم اعتماده بكثافة من قبل المتابعين لمسارات ما أصبح يعرف بظاهرة «الإسلام السياسي». فحتى وسائل الإعلام الغربية لم تعد تستنكف من استعماله، وإن بقيت تتعامل معه بكثير من الحذر.
ويعود هذا الاستعمال المكثف إلى عاملين اثنين على الأقل. أولهما المكاسب الانتخابية التي حققها الإسلاميون في كل من المغرب والبحرين وباكستان وتركيا. وهي انتصارات جاءت مفاجئة للمراقبين الذين ذهب الظن ببعضهم إلى الاعتقاد بأن تداعيات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ستصيب حركات الإسلام السياسي بالانكماش والتراجع. أما السبب الثاني فقد فرضته الضرورة المنهجية للتمييز بين هذه الحركات التي اختارت الوسائل السلمية والديمقراطية للوصول إلى السلطة وبين التيارات أو التنظيمات التي تلتقي مع الأولى في جوانب مهمة من المرجعية الدينية وبعض الأهداف السياسية، لكنها اختارت العنف أداة للتغيير وقلب الأوضاع المحلية أو الدولية. وأصبحت هذه الضرورة المنهجية أكثر إلحاحا منذ أن افتك «تنظيم القاعدة» المبادرة على صعيد الفعل السياسي وحاول فرض استراتيجيته وأجندته على جميع المسلمين عامة وكل «الإسلاميين» خاصة. لكن ما هي الخصائص الجامعة لحركات الاعتدال الإسلامي؟ وما مستقبلها؟
أدرك كثير من الباحثين الموضوعيين ومنهم بعض الغربيين منذ سنوات التسعينات من القرن الماضي أو قبلها، أن التعميم ووضع جميع السياسيين الذين يستندون على خلفية دينية في سلة واحدة، خطأ وعيب لا يجيزهما البحث العلمي وأخلاقيات المهنة الصحافية. فالخلط المتعمد بين هذا الكم الهائل من التيارات قد يكون مبعثه المشاحنات الأيديولوجية والسياسية القائمة بين نشطاء هذه الظاهرة وخصومهم، لكنه لا يساعد مطلقا على فهم التناقضات الحاصلة بين الإسلاميين، أو تحليل أسباب الاختلاف القائم بين مكوناتها. وهو اختلاف يصل إلى حد التناقض والتناحر والصراع، وقد يبلغ أحيانا درجة الاقتتال.
خصائص «الإسلامي المعتدل»
يمكن التقاط ثلاث خصائص تشترك فيها الحركات الإسلامية الموصوفة بالاعتدال. وهي خصائص يتشابك فيها الفكري بالحركي والسياسي:
- الاندماج في المجتمع : المقصود به حال نفسية وفكرية تجعل الفرد والمجموعة يتمتعان بقابلية التحرك في صلب المجتمع بأقل ما يمكن من التوتر ونزعة الرفض أو الإقصاء. وهي حال يفترض أن تكون طبيعية لولا سلسلة من الآراء والمواقف انبثقت في فترات متلاحقة ضمن ظروف اتسمت بالقسوة وردود الفعل، دفعت بأصحابها وعلى رأسهم المرحوم سيد قطب إلى شحن المواقف السياسية بمضامين عقائدية، أدت إلى تكفير الأنظمة والمجتمعات، وخلقت حال صراع بين «الإسلامي» ومحيطه الاجتماعي. هذا الإسلامي الذي وجد نفسه متماهيا مع مرحلة سابقة من ماضيه (مرحلة البعثة النبوية)، لاغيا الفوارق بين الحقب التاريخية، ورافضا الاعتراف بسنة التغير والتبدل، وبالتالي عاجزا عن فهم الحاضر بكل تراكماته ومشكلاته النوعية. هذا النوع من التفكير خلق بالضرورة ولايزال سلسلة من الانتكاسات والأزمات، ما دفع بآخرين من داخل الدائرة الحركية إلى الوعي بخطورة هذا المطب النظري، والسعي إلى تصحيح المسار وإعادة بناء العلاقة مع المجتمع والدولة.
- رفض العنف كمنهج للتغيير: للعنف، الذي تسلل منذ وقت مبكر إلى عدد من حركات الإسلام السياسي، جذوره الفكرية والسياسية والاجتماعية. وعلى رغم أنه أدى في كل الحالات تقريبا إلى إلحاق أضرار جسيمة ببنية هذه الحركات، إضافة إلى ضحايا هذا العنف، فإنه استمر وانتشر وبلغ أحجاما خطيرة وضخمة. لهذا تحاول التيارات المعتدلة القطع مع هذا الأسلوب، مؤكدة عدم شرعية الكثير من أشكاله وأهدافه ووسائله، ومبرزة تداعياته السلبية على الإسلام ومصالح بقية الإسلاميين والمجتمعات الإسلامية، ومدافعة عن الدعوة بالحسنى واستعمال الحجة والتغيير السلمي.
- التسليم بقواعد النضال الديمقراطي: بناء على المقدمتين السابقتين تؤكد الحركات المعتدلة قبولها الاحتكام لسلطة الشعب من خلال اللجوء إلى صندوق الاقتراع. وهو تحول تطلب نقاشات طويلة لإقناع أنصار معظم هذه الحركات بأن مبدأ الانتخاب الذي لم يتبلور ولم يترسخ طيلة تاريخ الممارسة السياسية العربية الإسلامية لا يتناقض مع العقيدة التي اختزلها البعض في شعار «الحاكمية لله».
تجارب لا تشجع لكن باب الاجتهاد مفتوح
هذه الخصائص الثلاث وغيرها تطلبت الكثير من الوقت حتى تتحول إلى منهج عمل تتبناه أكثر من حركة على الساحتين العربية والإسلامية. لكن ذلك لم يحل دون أن تواجه هذه الحركات ولاتزال حملات سياسية وأيديولوجية من قبل خصومها. فهناك توجه عام نحو التشكيك في «نواياها» وصدقية خطابها. ويستند هؤلاء في حملاتهم إلى تجارب الإسلاميين الذين تمكنوا في أكثر من بلد من ممارسة السلطة، إذ لم يكونوا أفضل من سابقيهم في احتكار أجهزة الدولة واللجوء إلى قمع مخالفيهم في الرأي واللون السياسي. وغالبا ما تتم الإشارة إلى ما جرى ويجري في إيران والسودان والتجربة السيئة الذكر في أفغانستان.
مع صحة الاعتراضات بالنسبة إلى التجارب المذكورة، فإنها من الناحية المبدئية غير ملزمة لمن لم يشارك فيها، وبالتالي لا يصح اعتمادها لسحب البساط من البقية والطعن في نواياهم بشكل مسبق. فالتطور يبقى واردا، والتجربة تبقى أفضل الوسائل للحكم على الأشخاص والأحزاب. لكن لا ينفي ذلك القول إن حركات الاعتدال الإسلامي تمر بحال اختبار حرجة. فالديمقراطية ليست مجرد تقنيات انتخابية، وإنما هي أيضا إيمان عميق بالحريات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها المواطنون وتجب حمايتها عن طريق الدستور والقانون والثقافة والتربية. كما أن الديمقراطية تقتضي الإيمان بالتعددية وحق الآخرين في مخالفة السلطة والاعتراض على التيار الأغلب في المجتمع واعتماد الإقناع بالحجة للدفاع عن الثوابت أو المكاسب. وهذا يعني أن نجاح الحركات المعتدلة ليس مرهونا فقط بانضباطها السياسي وعدم استعمال أجهزة الدولة للتدخل في الحياة الشخصية للمواطنين أو إلزامهم بما ليسوا مقتنعين به، ولكن نجاح هذه الحركات مرهون أيضا بشيوع فكر إسلامي جديد ومستنير قائم على الاجتهاد والتنوع وتأصيل الحريات وحقوق الإنسان.
لا تنضج السياسة إلا بفكر مستنير
في هذا السياق تتميز التجربة التركية التي بقطع النظر عن ملابساتها المحلية أو مدى نجاحها في مواجهة ضغوط العسكر والتوصل إلى حل المعضلة الاقتصادية بأنها جاءت نتيجة نقاشات معمقة تناولت كثيرا من المسائل الجوهرية، من أهمها كيفية إعادة ترتيب العلاقة بين السياسي والديني التي تعتبر من أدق المعضلات التي تواجه حركات الإسلام السياسي في كل مكان وزمان.
صحيح أنه بالرجوع إلى مضمون خطاب الحركات التي حققت انتصارات انتخابية في البلدان المذكورة سابقا، يلاحظ أنها اتخذت من قضايا الفساد المالي والإصلاح الاقتصادي والعداء للولايات المتحدة محاور أساسية في حملاتها الانتخابية، ما يعد تطورا مقارنة بما كان يحدث في السابق من انغماس في المسائل الأخلاقية. لكن دخول البرلمانات لممارسة الضغط والرقابة على السلطة التنفيذية، أو المشاركة في الحكم إن لم نقل الانفراد بتشكيل حكومة، لا يعد نهاية للمطاف، ولا يعكس بالضرورة تفويضا كاملا من الجماهير، بقدر ما هو فرصة لكسب النضج السياسي والفكري، وتحقيق الجدلية بين النص والواقع، مراعاة لجميع التوازنات والضغوطات. لهذا من السابق لأوانه الحديث عن انتصار تاريخي للحركات الإسلامية المعتدلة، وإنما هو خطوة مهمة في اتجاه الاقتراب من الناس والقطع مع العنف والتشنج ومنطق التكفير والاغتيال، تحتاج إلى خطوات أخرى فكرية وعملية من أجل ترسيخ الأقدام وتوضيح الرؤى وإعادة تأسيس المفاهيم والممارسات
العدد 151 - الإثنين 03 فبراير 2003م الموافق 01 ذي الحجة 1423هـ