الحرب الأميركية على العراق ليست تحديا للعراقيين بقدر ما هي تحد لمنظومة القيم الانسانية، والمعارضة العراقية، سواء كان ذلك رغبة منها أم لأن وجودها وعدمه واحد، تعيد قراءة مفهوم المعارضة للنظم الدكتاتورية. فقد ارتمت اطراف المعارضة، إلا ما شذ وندر، في أحضان الولايات المتحدة وبدت وكأنها مجرد اطفال صغار يركضون خلف بائع «الايس كريم».
المعارضة العراقية كان لها شأن كبير في داخل وخارج وطنها قبل عشرين عاما، اما الآن فهي آخر من يستشار في شأن العراق ما ادى إلى اختفائها من الوجود. ولم تظهر إلى العلن إلا بعد ان قررت واشنطن ان تجمع المعارضين وتنظمهم وتمولهم وتقودهم وتوزع الأدوار عليهم.
المأساة العراقية قديمة، ولكنها تجددت الآن لتقلب لنا مفاهيم الحق والعدل والصحيح والخطأ والنضال والعمالة، ولم تعد اية ورقة أو قيمة واضحة لهم أو لغيرهم. فمنذ وصول الرئيس العراقي للسلطة والمعارضة العراقية تركز على شخص صدام، وتحول اسم صدام إلى رمز لكل شيء يرعبهم ويرعب العراقيين، وتحولت القصص والحكايات التي يتحدثون بها إلى عقد وأساطير، وتهجرت مئات الألوف من العراقيين إلى مشارق الارض ومغاربها. والعراقيون، بعكس غيرهم، عندما تهجروا حاولوا الابتعاد عن بعضهم بعضا لأنهم عانوا الكثير من تدخل النظام والحزب والمخابرات في شئونهم الخاصة والعائلية، ما حدا بهم لعدم الثقة ببعضهم بعضا. ومنذ الثمانينات لم تعقد المعارضة العراقية اي مؤتمر أو اجتماع إلا وانتهى بحرب كلامية وغير كلامية بينهم. بل ان اجيال العراقيين المهاجرة انجبت جيلا كاملا لا يحب سماع اسم «العراق» لكثرة ما سمع من ويلات وآهات.
العراقيون بمختلف أجناسهم وأعراقهم وثقافاتهم، من عالم الدين الى العسكري إلى التاجر والحرفي، يتجمعون الآن بقيادة غير عراقية، للمساعدة في تحرير بلادهم من الدكتاتورية... وبهذا القرار فإن المعارضة العراقية التي كان لها فضل على كثير من حركات المعارضة في مختلف البلدان، بما في ذلك «حزب الله اللبناني»، ترتكب حماقة بتفضيلها الغزو الاميركي للعراق على الدكتاتورية التي عانوا منها كثيرا. وعليهم ألا يستغربوا عندما لا يجدون من يؤيد ما يقومون به قبل الغزو وبعد الغزو فبعض المعارضين العراقيين كان يخرج على شاشات التلفزيون يطالب بتضييق الحصار الاميركي عندما كان شعبهم يموت جوعا. هؤلاء «المعارضون» كانوا مملوئين بالأكل ومستحصلين على الرعاية الصحية وعلى أفضل الخدمات في لندن وواشنطن ولم يفكروا حين طالبوا بتضييق الحصار على شعبهم في انهم يزيدون من آلامه... فكيف يمكن لمعارض ان يقوم بمثل هذا الامر؟ وما المبررات؟ وهل وصلنا إلى هذا المستوى المنخفض من القيم الانسانية؟
المصلح الاسلامي الكبير جمال الدين الافغاني كان يقول قبل اكثر من مئة عام ان الأمة الاسلامية تعاني من ثلاثة عوامل ادت إلى تخلفها وهي: الاستعمار والدكتاتورية، وجهل الأمة، ولذلك فإن خلاصنا من الدكتاتورية وعودتنا إلى شيء آخر قريب من مفهوم الاستعمار يعد تخلفا حضاريا بذاته. نعم قد يتم افراغ السجون ويتوقف التعذيب وتمتلئ البطون ويصل الدواء إلى المريض، ولكن هذا الارتياح المادي الذي «قد» يحصل بعد غزو الاميركان ما هو إلى فائدة مادية على حساب القيم الثقافية والحضارية للعراق وللمنطقة. ولعل ما حصل في العراق من اضطهاد لم تعرفه دول كثيرة في المنطقة ولكن المصيبة نفسها واجهها الأفارقة الذين ناضلوا ضد الاستعمار واخرجوا المستعمر ولكنهم تورطوا بعد ان تحول الثوار الذين تسلموا الحكم إلى دكتاتوريين لا يرحمون احدا من ابناء شعوبهم. ولكن الافارقة لم يتجرأ احد منهم كما تجرأت المعارضة العراقية. فلم نسمع من قوى معارضة افريقية تطالب بتدمير بلادها وشعبها فقط للخلاص من الدكتاتورية المحلية التي انوجدت بعد رحيل الاستعمار.
المعارضة العراقية واقعة في الاحراج ومع حسابات الربح والخسارة فإن كثيرا منهم خرج من وطنيته ليتسابق من الآن من أجل رضا الاميركان. فبعضهم يبشر الاميركان بأنه سيفتح سفارة للكيان الصهيوني وآخر يبشر بربط اجهزة الامن العراقية بالاجهزة الاميركية والاسرائيلية للمساعدة في «الحرب على الارهاب»، وآخر يعرض خدماته بأي شكل توده الولايات المتحدة...
وعندما حاول المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق الذي يمتلك جيشا صغيرا يقدر عدده بما بين عشرة الاف إلى خمسة عشر الف عسكري (قوات بدر) ان يناور مع الاميركان تم حذفه من قائمة المعارضة المرضي عنها وتم استبداله بفصيل اسلامي شيعي آخر.
اننا مطالبون بالنظر إلى الامور بمثل ما كان ينظر الرجال المصلحون من امثال جمال الدين الافغاني وألا ننزلق باتجاه يجلب الحسرة والندامة. فرفضنا للدكتاتورية ينبغي الا يدفعنا إلى القبول بأي شكل من اشكال الاستعمار
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 151 - الإثنين 03 فبراير 2003م الموافق 01 ذي الحجة 1423هـ