المشروع الأميركي الجديد والذي تم طرحه بواسطة وزير الخارجية الأميركي كولن باول الذي أطلق عليه اسم (الشراكة الاميركية الشرق أوسطية) والقاضي بنشر الديمقراطية في العالم العربي، أحدث ردود فعل كبيرة للغاية وغالبها الرفض والاستهجان والاستنكار بل السخرية في بعض الأحيان من دون قراءة موضوعية للأسباب التي أدت إلى طرحه ومن دون النظر إلى من هي الدول والشعوب المستفيدة منه باعتباره مشروع (شعوبي) وليس مشروعا لإدارة الأنظمة الحاكمة كما كان يفعل الرئيس الأميركي السابق بل كلينتون في أدلجة (الأنظمة) وجاء الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن) بمشروع جديد وأنا اعتبره تقدما كبيرا للإدارة الأميركية في فهم المعطيات الجديدة للتعامل مع العالم إذ جاءت بمشروع يمكننا أن نسميه ادلجة (الشعوب) وهذه خطوة موفقة في نظري وقد يختلف معي البعض أو يتفق.
الكثير من الكتاب في البحرين وفي غير البحرين قد كتبوا عن الموضوع بكثير من الإشفاق مع إهمال جوانب كثيرة مهمة في الدور الأميركي في المنطقة العربية ولئن كان الكتاب في المنطقة العربية يرفضون (الشراكة الاميركية) فهي على الأقل موجودة مع كل دولة على حدا وتؤكد ذلك اراشيف الأخبار هنا وهناك وبالنسبة إلى مصر التي عارض أكثر كتابها ومثقفيها المبادرة الأميركية لها شراكة اقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية منذ فترة طويلة وكان أبرز ما حدث في هذا الصدد اجتماعات لجنة المشاركة المصرية الأميركية في واشنطن التي شارك فيها أربعة وزراء مصريين ومحافظ البنك المركزي، والتي جاءت في إطار اهتمام الولايات المتحدة الأميركية، بتنشيط علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع مصر والدخول بصفتها شريكا في عملية التنمية الاقتصادية التي تم على أثرها إعلان بوش/ مبارك في سبتمبر/ أيلول 1994 حملت اللجنة المصرية مقترحات كانت تستهدف إنجازها، أبرزها إنشاء منطقة التجارة الحرة بين البلدين ومحاولات زيادة فرص التصدير المصرية إلى الأسواق الأميركية وتطوير الموانئ وقد حققت الكثير من النجاحات أهمها زيادة نسبة السلع المصرية المسموح بإعفائها من الجمارك إلى 7 في المئة بدلا من 4 في المئة والاتفاق على تطوير نظام الأفضلية الممنوحة لمصر بإضافة سلع جديدة... (البيان الإماراتية 27/4/1998) هذا غير الديون الهالكة السنوية التي يتم إعفاؤها لمصر وإذا جاء الحديث عن الأردن فهي احدى الدول العربية التي لها شراكة من الولايات المتحدة الأميركية على رغم أنها هي الدولة التي تكاد تكون الأولي في المنطقة العربية التي تعاني من عدم وجود موارد أيا كان نوعها فتصبح شراكتها مع الآخرين أمرا لا مفر منه.
على مستوى دول المغرب العربي كان اللقاء الذي تم في واشنطن بين مساعد كاتب الدولة في الشئون الاقتصادية ايزنساتت وبعض الوزراء المغاربيين المعنيين بشئون المال والاقتصاد، والمنتمين إلى المغرب والجزائر وتونس و مبادرة ايزنساتت التي كان أطلقها خلال زيارته لبعض دول الشرق الأوسط والمغرب العربي في يونيو/ حزيران 1998 والتي ترتكز على حوار منتظم مع مسـئولين من المغرب والجزائر وتونس من الواضح، أن المبادرة الأميركية تمليها عدة اعتبارات مرتبطة باهتمام الولايات المتحدة ودورها في صوغ العلاقات في هذه المنطقة. فغير مخفي علينا الارتباط العميق بين هذه المنطقة والشرق الأوسط، فالمنطقة المغاربية تعتبر طريقا مؤديا إلى الشرق الأوسط والخليج. ومن هذا المنظور فهي تندرج ضمن المخطط الأميركي الدافع نحو شراكة واسعة بين دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهو المشروع الذي جاء في سياق مفاوضات مدريد، والذي دشن في العام 1994 بأول مؤتمر انعقد في مدينة الدار البيضاء المغربية، تلته مؤتمرات في عمان والقاهرة والدوحة (البيان الإماراتية 16/5/1999م) وأما إذا نظرنا إلى المنطقة الخليجية فإن الشراكة الأميركية معها قائمة بل في جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها
أما إذا كان الكتاب والمحللون قد سخروا من المبلغ الموضوع لتنفيذ الشراكة الأميركية العربية البالغ 29 مليون دولار فإن ما تدفعه أميركا من مساعدات عينية ومالية تفوق الـ 10 مليار دولار لعدد من الدول العربية سنويا وتلغي ديونا على دول عربية بأكثر من 15 مليار دولار.
البعض وصف المبادرة الأميركية بأنها إعادة لرسم خريطة العالم العربي و تمثل استراتيجية أميركية جديدة للهيمنة والسيطرة على منطقة الشرق الأوسط ووصف البعض الآخر بأنه شكل من أشكال الاستعمار الجديد، ومهما يكن من أوصاف وصفت بها المبادرة الأميركية فإنها في فهم الشعوب مبادرة القرن الجديد وانها تمثل المخرج الوحيد للشعوب المستضعفة من قبل حكامها وتحول جديد من واقع مزري إلى واقع جديد تعاد فيه حرية البشر تخرجهم من ظلم وعسف الحكام إلى مرحلة جديدة محكومة بحقوق الإنسان العالمية والالتزام بالمواثيق الدولية إلى حيث الشفافية (المفروضة قسرا). وإذا كان الآخرون يعيشون في بحبوحة من العيش تحفها مواثيق حقوق الإنسان في ظل أنظمة ديمقراطية تسمح لهم بتداول الرأي والرأي الآخر ونقد السياسات الحاكمة وتساهم في تنمية بلادها، ففي جانب آخر من الأمة العربية والإسلامية ومن الوطن العربي الكبير شعوب تعيش في سجون كبيرة اسمها الأوطان وداخلها سجون حقيقية يكتظ فيها الناس بالآلاف إذ لا تنمية ولا عيش كريم ولا رعاية صحية للأطفال والنساء وتهدر هناك ابسط قواعد حقوق الإنسان في العيش الكريم وفي التعبير عن الذات، تلك الشعوب هي الآن سعيدة وفرحة بلا حدود وجاء الأمل من الولايات المتحدة الأميركية بل وهؤلاء في شوق إلى أن تحين لحظة تنفيذ المبادرة وتصبح واقعا معاشا.
هذا الحديث يقودنا إلى الدور الأميركي الجديد في المنطقة العربية ونحن عندما نتحدث عن المنطقة العربية لا نعني (الخليج العربي) المستمتع بالخيرات والذي يعيش في رفاهية من العيش إذ المكرمات الأميرية والملكية ومتوسط الدخل السنوي للفرد (500,1) دولار في السنة نحن نتحدث عن المنطقة العربية غير الخليجية والتي لا يتعدى متوسط دخل الفرد السنوي فيها (8) دولارات في السنة ونحن نتحدث عن المنطقة العربية التي تمتلئ فيها السجون وتكتظ بآلاف البشر ويموت فيها الشباب ليس بحوادث الحركة والمرور كما في (الخليج العربي) ولكن يموتون بأسباب كثيرة منها المخدرات وبالاعتداءات السياسية أو الطائفية أو بسلاح الشرطة وأفراد الأمن أو كما يحدث في السودان بالحرب الأهلية والتي ما كانت لتنتهي أو تعطي الأمل بالحل النهائي للمشكلة وإيقاف نزيف الدماء إلا من خلال الدور الأميركي والضغوط التي أحدثتها الإدارة الأميركية لطرفي الصراع في السودان وهنا لابد من ذكر نموذج الدور الأميركي الفعال والايجابي والتاريخي (رضي الآخرون أم أبوا) بالنسبة للسودان والتي حاولت جميع الأنظمة التي حكمت السودان إيقاف نزيف الدماء السودانية ولم تستطع لذلك سبيلا وفي السنوات الأخيرة من عمر السودانيين تفاقمت الحرب الأهلية وتطورت أسلحتها واتسعت رقعتها وقضت على الأخضر واليابس وازدادت ضراوة العمليات العسكرية بين طرفي الصراع بين الحكومة والحركة الشعبية وللأسف الطرفان كانا مستعدين لمواصلة الحرب بينهما إلى آخر جندي سوداني من دون توقف إلا أن الإدارة الأميركية وباستراتيجيتها الجديدة هي التي أوقفت نزيف الدماء السودانية ولو لحين حتى تنتهي المفاوضات الجارية الآن وبرعاية أميركية ولا أكذب أن قلت إن المقاتلين السودانيين من الطرفين هم الآن أكثر سعادة ونشوة من توقف الحرب لما لعبته الولايات المتحدة من دور مهم ، ومَن مِن البشر يحب الحرب وقد قال فيها المولى تعالى (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) (البقرة 216) والإنسان بفطرته يكره الحرب والدمار وأحسب أن الولايات المتحدة الاميركية وفقت في مسعاها لوقف الحرب الأهلية في السودان والتي استمرت منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي وحتى فرضت الإدارة الأميركية إرادتها في بداية هذا العام 2002م بأن اقترحت مفاوضات ثم رعتها وقامت بِحَث طرفي القتال على الجلوس فيها وبالفعل انتهت جولتان منها في ضاحية ماشاكوس (الكينية) وتبقت الآن جولة أخيرة من بعد ترتيب لقاء الطرفين في واشنطن قبل أيام ومن قبلها رعاية اتفاق (جبال النوبة) والتي أوقفت الحرب في هذه المنطقة بصورة نهائية أصبحت الآن تعيش في أجواء يحسدها عليها الآخرون من توافر نعمة الأمن والاستقرار في ظل وجود لجنة عسكرية اميركية توجد الآن في منطقة جبال النوبة (غرب السودان).
السودانيون الذين اكتووا بنار الحرب الآن في لهفة وانتظار حل قضية الجنوب نهائيا وقد فقد السودانيون من الطرفين خيرة أبنائهم علاوة على الإمكانات الكبيرة والضخمة التي أهدرت في حرب ليس فيها غالب ولا مغلوب وعلى رغم السجل الأسود للولايات المتحدة الاميركية فإنها في هذا الصدد نجحت أيما نجاح وسيكون النجاح الكبير إذا تم التوقيع بين الأشقاء السودانيين، أما ما يكتبه (العرب) في صحافتهم عن الاستعمار الأميركي الجديد فهو في نظر السودانيين وغيرهم قمة الحرية و(الانعتاق) نعم للولايات المتحدة أجندتها الخاصة في الاستفادة من النفط السوداني ليس هناك أية مشكلة فلتعاملنا مثل ما عاملت به الدول الخليجية تستفيد من نفطنا لتساهم في تنميتنا وتمكن لنا الديمقراطية في أن نقول ما نراه لإصلاح بلادنا مثلما يحدث الآن في البحرين وفي قطر، وردا على ما يقال عن المشروع الاميركي، فالذي يده في النار غير الذي يده في الماء ويقول المثل السوداني الفصيح (الجمرة تحرق الواطيها)...
إقرأ أيضا لـ "خالد أبو أحمد"العدد 150 - الأحد 02 فبراير 2003م الموافق 30 ذي القعدة 1423هـ