عدا العالم، كما يحبه سكانه انقسم إلى قسمين شبه متعادلين كثمرة الإجاص. ذلك، بعد غياب دام أكثر من عشر سنوات، مع فارق مهم، وهو ان هذا الشرخ لم يعد، كما كان الحال أيام الحرب الباردة، ايديولوجيا مدعوما من جبارين. فإذا كان «المنتدى الاقتصادي العالمي» المغقة كالعادة والقانون بمنتجع «دافوس» السويسري يمثل العالم الرأس مالي ومتنوعاته ملاحقه من أنظمة سياسية وشركات عالمية ونخبة رجال الأعمال، من كل حدب وصوب، مسددين بدلات مشاركتهم ولظهورهم على منشبه سرحة، فنقيضه هذه السنة، كان الملتقى الاجتماعي العالمي يبوثور الميزي بالبرازيل، الذي بات يجمع اليوم اللاعبين الصغار معهم الفقراء المستضعفين من سكان هذه المرحلة. ما حدا بمنظمي «دافوس 2003» ستميار بشعار «بناء الشقة»، عنوانا لمؤتمرهم الذي انعقد من 23 إلى 26 يناير/ كانون الثاني الماضي. من الواضح ان هذا النظام الذي ضاعف من سرعته في السابق بشكل مؤهل مع انهيار الشيوعية في أوروبا والتحاق الرهين باقتصاد السوق بمنظمة التجارة العالمية وطغيان العولمة والفكر الواحد على العالم بدأ يفقد ظله» من بعض مبررات تحدياته. الأمر الذي دفع بمنطوي دافوس، في طليقهم «كلاوس شواب» - رئيسه ومؤسسه - للاستعانة بمواضع الساحة السياسية التي ظغت تقريبا على الاقتصاد، واللجوء للحديث عن أهمية دور الدولة وتشاركتها مع القطاع الخاص - ما كان مجرد الإشارة إليه في الأعوام الماضي جرعية - لإنقاذ ما يمكن انقاذه من هذا النظام الرأس مالي المعلق بقاطرة «الاقتصاد الجديد»، قبل فوات الأوان.
وإذا كانت تشخيصات عدد من المحللين الغربيين المشاركين في الملتقى قد ركزت على الأجواء المشحونة التشاؤمية السلوكية مع الحالة الانتظارية لحرب محتملة في العراق، والمتوقع كوريا الجنوبية واختبار القوة بين أميركا و«أوروبا القديمة»، بحسب تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد والتباطؤ الهائل للاقتصاد العالمي، فإن خبراء اقتصاديين مثل جوزن ستيغلني المستشار السابق للرئيس بيل كلينتون، ومن ثم نائب رئيس البنك الدولي، وأحد منتدبي صندوق النقد، قدشدد في مداخلاته بورش العمل (عددها 270) التي شارك في بعضها، كذلك عبر نقاشات جانبية في كواليسن المنتدى، على ان العالم يتعاطى اليوم من نتائج مساوئ العولمة وبُعد الوجه الإنساني عن الاقتصاد وإصفاف دور الدولة، وليس مع الأساسيات».
بروز العجز وضعف الصدقية
في المنتجع السويدي الذي استضاف 2150 شخص بين رئيس دولة ووزير ومسئول ورئيس مجلس إدارة شركة وصحافيين، ومتطفلين أيضا، والذي بلغت الموازنة المخصصة لهذا الحدث ما يقارب الـ 16,5 مليون يورو، بدا واضحا بأن اللقاء السنوي الذي يحمل الرقم 33 لـ «المنتدى الاقتصادي العالمي» كان أقل توهجا عنه في السنوات الماضية. فلم تكن هنالك - على سبيل المثال - شخصية بوزن بيل كلينتون، ولال الهالة الاستثنائية التي حظي بها في فترة رعايته لمشروع السلام في الشرق الأوسط في ذلك الحين، ووجود كل من ياسر عرفات وشيعون بيريز إلى جانبه. إذ حل محله هذه السنة وزير خارجية الولايات المتحدة، كولن باول، الذي لم يأتِ بجديد، في حين كان حضوره باهتا، فلم يلاحظ على الحاضرين أي تشوق لمعرفة ماذا سيقوله في مداخلته، وبالتالي، لم يفاجأ هؤلاء برثابة طرحه المكرر.
في المقابل، كانت غالبية الحضور تنتظر بشكل ملفت، ظهور النجم الآتي منتدى الفقراء، «لويس ايناسو لولا دي سيلفا» لؤهم ما أمكن، حقيقة التحولات التي جرت وتجري في هذا الجانب اعرق من العامل، وأسباب «الردة» على عولمتهم.
باختصار، كان الاقتصاد في «دافوس 2003» حزينا في ظل آفاق شبه سدودة لعود الانتعاش البعيد المنال والخاضع لمعطيات معقدة، ترافقها حال انتظارية شاملة، وتحديات تلقي بظلالها، وصولا إلى مواجهة محتملة لمخاطر متعددة، ففي الوقت الذي كان يتابع فيه المشاركون القدوات، كان مرافقوهم يتابعون من جهتهم التطورات على صعيد بورهات العالم وأسواق النفط. من هنا جاءت مداخلات أطراف السياسية فرتبكة يغلب عليها طالبع التشاؤم. فمنها ما هو محروب للأمام، «بشرف»؟ ومنها ما هو محاولات لطمأنة الدول الغربية، كما كان الحال مع رئيس صندوق النقد الدولي الذي بشر، وهو الذي عليك «أسرار الآلهة وحده» بهبوط أسعار برميل النفط إلى خمسة معدلات السنة، من دون تقديم أية تفسيرات مقدمة، ومنها ما هو متشائم بحسب ما ورد في الخطاب الذي ألقاه ملك الأردن عبدالله الثاني الذي جزم فيه بأن «العثور على دبلوماسي لتفادي الحرب على العراق يحتاج لمعجزة».
ففي ظل طغيان السياسة وهاجس الحرب على الاقتصاد وكيفية العمل لإخراج النظام الحالي من ورطته، ناقش المشاركون في داقوس 2003 المواضيع المحددة. فكان الملاحظ تأثير عجز الصدقية والثقة لدى المسئولين السياسيين ولدى أرباب العمل من رؤساء كبريات الشركات العالمية، وأيضا لدى القيمين على أمور المؤسسات المالية والصناديق المختصة، على المناخ العام. ولم يكن هنالك أية مبالغة في هذه الرؤية، إذا ما علمنا بأن استطلاع الرأي الذي قامت به إدارة المنتدى الاقتصادي العالمي حيال 15 ألف شخص موزعين على 20 بلدا، أظهر مدى التخوف المتزايد من خطورة الوضع الحالي على المجتمعات كافة، شمالا وجنوبا. مع ذلك لم يتمكن المشاركون الأساسيون في الندوات وورش العمل وخبراء ومحللين، كذلك المسئولية الذين قاموا بمداخلات كثيرة من إزالة حال القلق السائد أو التخفيف من هول الجزع المسيطر بسبب الخلافات العميقة ووجهات النظر من ناحية. ومن ناحية أخرى، التناقضات في المواقف، علما بأن المتحاورين ينتمون عمليا لنفس الصف الليبرالي الذي ينادي بالأفكار نفسها، ويسعى لتحقيق الأهداف نفسها، ويطبق الوسائل نفسها. ما دعا «كلاوس شواب» للتذكير أمام وسائل الإعلام بأن الموضوعات التي يناقشها المنتدى ليست بالضرورة حديثة، إلا أنها يمكن أن تشكل عنصرا ضاغطا على مسار الحوادث العالمية السائدة، وتساهم بتعديل، لا بتغيير بعض التوجهات المعقدة. ذلك، لأن عددا من الموضوعات الرئيسية يبقى مرتبطا ارتباطا وثيقا بالتحولات المتوقعة في الأشهر أو الأسابيع المقبلة على الصعد كافة، خصوصا لناحية الانعكاسات الاقتصادية والجغراسياسية دولي كل من تصريحاته، يصل «شواب» للإستنتاج بأن «داوس» لعب أكثر من مرة دور «المسهل للحوار» السياسي والاجتماعي.
ويرى بعض المراقبين في حضور ممثلي بعض النقابات والمنظمات غير الحكومية هذه السنة، رمز للانفتاح «المفروض» على نادي الأغنياء، هذا الأخير الذي بذل جهودا مغنية في محاولة منه لتعميم صورته الإنسانية بابتعاده بعض الشيء عن الرأس مالية التابعة للعولمة المتوحشة من خلال اختيار عناوين لموضوعات كثيرة لورشات العمل والندوات، تعالج اهتمامات وقلق دول الجنوب، مثل: العولمة بين الالفقر وعدم المساواة، الرشوة وتبييض الأموال، أو نجاح تجربة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وانعكاسات أسعار النفط على اقتصادات الدول الفقيرة والنامية واستقالة الطبقات الوسطى ومن مهماتها في مناطق كثيرة من العالم. وإذا كان العالم العربية والإسلامي قد حظي بحيّز من التركيز السياسي عبر طرح موضوع القاعدة والنتائج الاقتصادية للحرب على الارهاب، والتحديات المطروحة في هذه المرحلة على العالم الإسلامي، والديمقراطية فيه فإن الجوانب الاقتصادية فيه بقيت من دون مستوى الطروحات.
العالم العربي وتراجع الاهتمام
إذا كان «دافوس 2003» ركز على الموضوعات التي أشرنا إليكم أعلاه، وعلى رغم حضور مكثف لرجال الأعمال السعوديين والمسئولين مثل وزيري المال والاقتصاد والنفط والمديرين العامين لشبكة أرامكو وغيرها، وتخصيص حلقة بحث بعنوان: «اللقاء مع السعوديين» إلا ان الموضوعات الاقتصادية المتعلقة بالعالم العربي لم تزد عن أصابع اليد الواحدة، إضافة لعموميتها مثل العودة لتقرير التنمية العربية الصادر منذ أشهر عن الأمم المتحلة والذي ستطبع ملخص منه بالعربية إدارة دافوس، أطلقت عليه اسم «الثنائية في العالم العربي»، أو موضوع مقارن عن المرأة في الغرب وفي العالم الغعربي. في حين حظيت تركيا بثلاثة ندوات خاصة بها وبمشكلاتها وحدها، بهدف تجميل صورتها أمام المشاركين العالميين بعد انهيار اقتصادها وإفلاس مصارفها وكبريات شركاتها، ويعزز المراقبون هذا التوجه لوجود رغبة أو نصيحة مقدمة من قبل «دوائر عليا» دفعت باتجاه هذا التركيز على تركيا وإيجاد آلية توضع وضع التنفيذ لتوفير المساعدات اللازمة من القطاع الخاص العالمي الممثل في هذه التظاهرة بهدف توفير المبالغ المتبقية وقيمتها 16 بليون دولار لتمكين الاقتصاد التركي من الوقوف على قدميه وتفايد الأسعار. وفي سياق تراجع الاهتمام العربي لصالح مناطق أخرى وموضوعات مختلفة، حظيت المسألة الأمنية والسلاح النووي وتوسع أوروبا شرقا أو إيران بعد 23 عاما على الثورة بحيز لا بأس به تم حشد عدد من الخبراء والمحللين لمنتاقشتها والخروج ببعض التوصيات بشأنها.
أما فلسطين واقتصادها المنهار و70 في المئة من أهلها الذين يعيشون تحت خطر الفقر، فلم تعد على - على سبيل المثال - محورا أساسيا من محاور «دافوس 2003»، كما كان الحال بعد توقيع اتفاقات أوسلو وقمة «مينا»، لدول الشرق الأوسط وشمال افريقيا التي عقدت في الدار البيضاء منذ سنوات، والتي هدفت إلى كسر الحواجز النفسية بين رجال الأعمال العرب والإسرائيليين يومها. وكان حضور ومداخلة وزير المالية الفلسطنيية بمثابة عرض حال وتأكيد الالتزام بما هو مطلوب غريبا، من الدول المانحة تحديدا، كشف بالخطوات الإصلاحية التي ستعتمدها السلطة الفلسطينية من دون الحصول على موقف ولو شكلي يخفف من معاناة الفلسطينيين اليومية، الأنكى من ذلك، ما ورد في الخطاب الذي ألقاه كولن باول الذي وعد بقيام دولة فلسطينية في العام 2005 بشرط قيادة مختلفة ووقف العنف تماما، في السياق نفسه لم يهتم المشاركون بما يتعلق بالعراق سوى فيما إذا كانت المملكة العربية السعودية و
العدد 150 - الأحد 02 فبراير 2003م الموافق 30 ذي القعدة 1423هـ