العدد 150 - الأحد 02 فبراير 2003م الموافق 30 ذي القعدة 1423هـ

شكري الذي...

الرباط - ادريس الخوري 

تحديث: 12 مايو 2017

هو الذي ملأ الاسماع منذ صدور خبزه الحافي او «من اجل الخبز وحده» وذلك في كتابتها التجريبية الاولى، قبل ان تصبح خبزا ودسما وليالي باذخة واموالا في المصرف وترجمات إلى اللغات. في البدية كان مجرد كاتب محلي مثلنا يجري وراء اثبات ذاته الموزعة بين مشروع الكتابة ومشروع العيش اليومي الذي يتطلب الصبر وسلطة الادارة، تشاهده مقاهي وأزقة طنجة ومطاعمها وهو متأبط حزمة كتب يذرع رصيف مقهى سانطرال بالسوق الداخل في المدينة القديمة، كان ذلك في نهاية الستينات وبداية السبعينات، ففي هذه الفترة لم يكن الفتى الريفي، المعلم في مدرسة، يملك قوت يومه الا بالاستدانة، اذ ان مشروعه الاساس هو ان يصبح كاتبا ويسدد ثمن متعته الروحية اليومية، كانت متعته هي نفسه، اي البحث عن لحظات هاربة في زحمة الوقت وشارع الايام، لكن الوقت سائب لا لجام له، هو مثل الحصان الهائج، وها هو اليوم قد اصبح كاتبا عالميا في حين بقينا نحن مجرد كتاب محليين!

مرحى له، فقد ترجم إلى بعض اللغات الحية. يقال عنه انه كاتب كبير، يتعلق الامر بالراحل محمد زفزاف الذي تنطبق عليه هذه الصنعة الادبية فعلا، شكري عالمي وكاتب هذه السطور محلي، فهل يقبلنا هذا الرجل المغرور في قبليته السردية؟ ليس الامر الا دعابة نروجها في جلساتنا الخاصة والعامة لقتل الوقت.

اربعون سنة من العلاقة الانسانية والثقافية، من دون توقف على رغم بعد المسافة بين الرباط وطنجة، ومع ذلك فان كل هذا العمر الموشوم بالمحبة المشتركة والآلام والفرح والضحك والنميمة البريئة يدفعنا إلى ان نحب بعضنا بغض النظر عن بعض الحساسيات الدفينة، المعلنة وغير المعلنة التي تصدر عنه تجاه زملائه الذين يتقبلون كل ما يتفوه به من اجل استمرار اللحظة حية في الوقت، فقد تضخم الرجل إلى ان صار طاووسا يقصي اقرب المقربين اليه، فهل بقى ثمة شيء من الحب الصافي، الخالي من الحساسيات الزائدة، بين الكتاب؟ لا داعي للقول إن علينا ان نحب بعضنا والا سنبقى وحدنا، اما الشهرة فهي قاتلة ان لم اقل مدمرة، وبعبارة اخرى مدمرة للتاريخ الشخصي للكاتب.

كان شكري مجرد كائن معلم طموح في العرائش وفي طنجة، يعترف هو في سيرته الذاتية وفي استجواباته. وهذه الصراحة الفاضحة والكاشفة دفعت الناس والقراء معا إلى الاعجاب به وبحماقاته الصغيرة والكبيرة وبهلوانيته التي تنعش اللحظات النفسية اثناء جلسات الاصدقاء، ولأنه كان في بداية تأسيس مشروعه الادبي فقد قضم كثيرا من الكتب والروايات متماهيا مع شخوص روائية وقصصية متسليا بها. كان شكري حصان القراءة والكتابة يعيش حياته اولا بأول غير عابئ بتدمير الذات التي كانت في قمة عنوانها، كريما مع نفسه ومع الآخرين، مازجا الليل بالنهار، جزءا من طنجة الهامشية، صورتها ومعالمها، تراثها المغربي والدولي، ناسها العاديين والمثقفين، مقاهيها وروادها، الخ... فهل بقى ثمة شيء لم يقله بعد؟ اعتقد اعتقادا شخصيا بأن الرجل استنفد كل ما عنده.

شكري بيننا الآن، بلحمه ودمه، اذ لا اريد ان احكي عن صداقتنا لانها تاريخية، ولذلك يزعجني من يدعي ويتقرب اليه للظفر بصداقته، ذلك ان شكري هو صديق نفسه قبل ان يكون صديقا للآخرين، صموت في لحظات الانتشاء، متحدث، ضاحك، ساخر، متشبث بالحياة ومتعها الروحية والجسدية، متقلب المزاج، عدواني، حتى اذا تعب جسده راح إلى سريره وراء شهرته التي دمرت فيه حس الصداقة.

في الصباح يستيقظ الجسد المتعب لاعادة الروح إلى صفاتها، وفي الزوال ينتعش، وفي المساء يدخل في التدمير. هي ذي الحياة وقد استمرت وتكررت لتصبح كتابا قائما بذاته.

ان كتابة شكري، كما يعرف القراء، كتابة فاضحة. لقد كتب نفسه وكتبنا، لخص طفولتنا المشتركة، وقبل ان يكتب كان مجرد سارد عيني (من الرؤية والذاكرة) معجبا بالنصوص الاجنبية المترجمة إلى العربية من بيروت. من يتذكر قصته الشهيرة «العنف على الشاطئ» التي نشرها له سهيل ادريس في مجلته «الآداب»؟ لقد كنت اول من كتب عنها في صحيفة «العلم» آنذاك منوها بها.

شكري الكاتب، شكري الانسان. ما الفرق بينهما؟ لا فرق، هو الكتابة وهو الحياة. هو اللحظات السائبة في ثنايا الايام، ان شكري ضد المؤسسة الاجتماعية بمفهومها التقليدي الراكد.

منذ الخبز الحافي الذي جلب له الشهرة والتي يتوهم، عن سوء نية، أن زملاءه يحسدونه عليها، وشكري يعيد انتاج ماضيه نفسه المثقوب بالفاقة والاحتياج، لا حاضر له الا ماضيه، ولذلك فالكتابة عنده هي الماضي المتشابك والمتقاطع، ان الماضي هو ذاكرة شكري والحاضر وهو الشاهد عليه، الماضي استحضار للذات المشروخة، والحاضر تفسير لها في عذاباتها ومعاناتها.

من الهامش نبت شكري ومنه نهض ووقف على رجليه، ولأنه يشكل، في حد ذاته، ظاهرة ادبية، فمن حقه ان يفتخر بنفسه: ان يستثمر ماضيه، ان يتنكر لزميله «الروبيو» قبل الخبز. ان يشتم الطاهر بنجلون وبول باولز اللذين صنعاه، ان يجري وراء المال، ان يلعب القمار. ان يتطاوس وينتفخ. هو الآن كما يقول: «كاتب عالمي اقصى نجيب محفوظ من الخريطة الادبية». مرفه ماديا، سعيد بالشهرة، فهل ما زلنا اصدقاءه؟

نحن لا نزرع الشوك في طريق الصداقة، هنيئا له





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً