واضح أن القطاع الإعلامي هو أكثر القطاعات قدرة على التحدث عن همومه واستعراض مشكلاته لما يملكه من أدوات تتيح له ما لا يتاح لغيره من القطاعات، مهما تقدمت وتعقدت أدوات اتصالها.
ولكننا اليوم أمام وضع، الحديث عنه ليس من قبيل الترف، أو استعراض المهارات الكلامية، أو «سد» خانة في الصحيفة، بل هو أمر أساسي في المسيرة التنموية التي تجتهد المملكة في خطوها يوما بعد يوم، فالصحافة «النظيفة» هي ما تحتاج إليه البحرين في الوقت الراهن، كما احتاجت إليه في الماضي ولم يقدّر لها ذلك للظروف المعروفة بشكل عام.
وبجانب «الظروف المعروفة»، تدخلت هناك أمور أخرى أسهمت في انكفاء الصحافة المحلية على نفسها طيلة السنوات الماضية، تجتر الهموم البسيطة ذاتها، وربما كانت المصالح العليا التي يربطها قادة هذه الصحف بالحكومة وعدم الرغبة في حضور المجالس الرسمية ليتلقوا من التوبيخ والتقريع ما ليس لهم طاقة به من قبل المسئولين والمتنفذين، جراء نشر خبر ما، أو تحقيق ما، كلها أمور لها صلة بالخمول الذي أصاب الصحافة بشكل عام، وراحت بعض الأخبار والتحقيقات تدفع في اتجاه الطرف الأضعف من الوزراء والمسئولين، متغافلة بصورة فاضحة تجاوزات وأخطاء تدور في وزارات أخرى مسئولوها ذوو عيون حمر، ويد طويلة.
ومع تأسس الصحافة الحديثة في البحرين، أو ما يمكن أن يسمى بـ «الصحافة الوسيطة»، التي صدرت في منتصف الستينات واستمرت إلى اليوم، والتي بعضها تعب من المواصلة والبعض الآخر لايزال وما بدّل تبديلا، كانت هناك الحاجة الماسة إلى العنصر البشري المؤهل، أو حتى شبه المؤهل لكي يقوم بتسيير الصحف والمجلات، الأسبوعية منها واليومية، وتمت الاستعانة بالمثقفين حينا، وبالهواة حينا، وبالعرب الوافدين حينا آخر.
أما المثقفون، فعمدوا إلى تلوين التحقيقات والأخبار بألوان انتماءاتهم السياسية، وباتت القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، والرياضية منها، لا تمر إلا عن طريق الآلة النفسية والمعرفية لهم، وشيئا فشيئا، وجد المثقف نفسه مكبلا بالمسموح والممنوع في التعاطي الحقيقي مع القضايا التي يؤمن بها، فانحصرت الهموم بالشأن الأدبي من الثقافة والفكر فقط، حتى نُقل عن مثقف أنه يشعر بـ «الإهانة» حينما يقال عنه صحافيا.
وقد يستغرب الجيل الجديد من القراء حينما يعلم أن الكثير من الكتّاب في الصفحات الثقافية اليوم، أو الذين اعتزلوا الكتابة في الصحف بشكل عام، إنما بدأوا حياتهم من باب الصحافة المحلية، ومتابعة الأخبار، والتقاط أفكار التحقيقات الصحافية.
وللأمانة، فإن المبحر في صحافة الأمس (الوسيطة)، أي الصحافة التي توسطت ما بين القديمة والحديثة منها في البحرين، يرى عمقا وقوة في الطرح لأية قضية محلية إذا ما تناولها المثقف المجبول على الحس النقدي، وطرق الموضوع من زواياه المختلفة.
أما الهواة، الذين أرادوا أن يتخذوا من العمل الصحافي «قنطرة» أو محطة مؤقتة ريثما تتعدل الأوضاع ويحصلون على عمل أقل جهدا، أو أعلى مردودا، فكان منهم من انتقل سريعا إلى عمل آخر، أو أن بعضهم عاكسه الحظ، فلم يرَ بدا من الاستمرار في الصحافة، على الأقل يضمن راتبه في آخر الشهر.
هؤلاء أيضا كانت لهم التماعاتهم الخاصة أحيانا، ولكن جزءا لا بأس به منهم، إنما يقومون بأداء وظائفهم كأي موظف في الوزارات المتعارف عليها، ينظر إلى ساعته متى ينتهي العمل في ذلك اليوم، ليقفل راجعا إلى منزله، وتنقطع علاقته بالصحافة حينذاك، حتى يصحو على صوت المنبه في اليوم الآخر، ليقوم بالجولات الكسولة والروتينية ذاتها كل يوم، و«سيلمّ» ما يتوافر من أخبار، وهكذا.
هذا النفر من الصحافيين لا يعوّل عليهم كثيرا في الارتقاء بالصحافة، بما تعنيه من «سلطة رابعة» في المراقبة والمحاسبة وكشف المشكلات، والإسهام في حلها.
هذا النفر من صحافيي المصادفة، لا يتردد في إلقاء اللوم على القيادات الصحافية التي ظلت على الدوام تحجم من عطائه، وكذلك على الزملاء من الصحافيين العرب منذ ذلك الوقت وإلى اليوم بوصفهم يستأثرون بالأخبار و«الخبطات» المهمة، تاركين له متابعة المعتاد من الأخبار، والعمل المرهق الذي لا طائل وراءه.
الصحافيون العرب الذي قدموا من بلاد مختلفة على مر السنوات الماضية، بعضهم ترك وراءه أثرا مهما، وجعل من حوله «مريدين»، وصار «أستاذا» لمن هم لا يفقهون في الصحافة إلا الإمساك بالقلم فقط من الهواة البحرينيين، بينما حاول البعض، في المقابل، الإيحاء لقيادة المؤسسات الصحافية بأن من دونه تتعطل الآلة، ومن دونه لا تصدر الصحيفة، ولولا العطاء الذي يبذله لما خرجت الصحيفة نهار اليوم التالي، وأن البحرينيين، بشكل أو بآخر، ليسوا أهلا للثقة بإدارة الصحيفة، حتى صرح مسئول في صحيفة بأن النوم لا يزور مقلتيه إذا كان المناوب السهران في تلك الليلة بحرينيا، متوقعا مصيبة ستحل عليه وعلى مطبوعته.
ليس هناك داعٍ للحديث عن النوع «المحترم» من الصحافيين العرب، إذ من المفترض أن يقوموا بدور التعليم وتأهيل صفوف أخرى تحل محلهم حينما يغادرون، وبالتالي ينعكس هذا النوع من التعليم والتدريب وتناقل الخبرات على تأسيس صحافة راسخة التقاليد، متينة البنيان، واضحة النهج، لها رؤية، يتم الاتفاق أو الاختلاف معها، لا يهم، ولكن لها رؤية تجاه ما يحدث محليا وخارجيا.
ولكن الحديث عن النوع الآخر من الصحافيين الذين أساءوا أيما إساءة ليس للصحافة البحرينية وحدها، بل للوطن بأكمله، إذ ليست لهم أية مصلحة في الدخول في صراعات مع أي من الأطراف، أو الوقوف مواقف مبدئية في وجه الخلل، فربما يقطع عليهم ذلك السعي وراء الجنسية، أو البقاء في البلاد، إذ صرح بعضهم غير مرة، بأن الوضع الصحافي هنا في البحرين سيئ من حيث الحريات (هذا الحديث جرى في أوائل التسعينات)، ولكن الحياة هنا مريحة، ومادامت الحياة مريحة، فلا سبيل للتصادم معها واصطناع البطولة، وبالتالي، ما إن يصدر قرار من مسئول، أو تتخذ مواقف رسمية معينة، حتى يتصدّر هذا النوع من الصحافيين مسألة التطبيل والهتافات، والتبريرات الممجوجة، ومخالفة العقل والمنطق فيما يقولون، حتى في الأمور المخالفة لحقوق الإنسان، ولأصول الديمقراطية، وللأعراف السائدة محليا وعالميا، وعلى أكثر من مستوى.
المشكلة هنا تتمثل في أن القارئ المحلي لا يقتنع بما يُكتب من قِبل هؤلاء ولا يصدق، ولا حتى الجهة التي تصدر القرار أو تقوم بفعل ما يناقض الثوابت أو المتعارف عليه تصدق التبريرات التي تساق، وكيل المدائح التي لا تنتهي، والنتيجة أن الطرفين يحتقران ليس الصحافي وحده، بل الصحافة المحلية برمتها.
وهنا الأمر لا يقتصر على الصحافيين العرب الوافدين، إذ أن اللعبة (احلوّت) في عيون عدد لا بأس به من الصحافيين المحليين أيضا، وصار التنافس على أشده في التقرب الباذخ من مراكز صنع القرار في الدولة، وصارت الصحف ذاتها تصنف بحسب انتمائها إلى أي من المعسكرات... بعض هذه الانتماءات آتٍ عن قناعة راسخة لدى قيادات هذه الصحف وموظفيها، وبعضها آتٍ عن خوف أو مصلحة مادية يتم إغداقها على الصحافي إما لشراء سكوته وتأمين حياده، أو استئجار قلمه، ليكون بالغ الفجاجة، خاليا من الحصافة، لا يهمه ما يصطدم به من قناعات شخصية أو عامة، مادام قبض ثمن الحبر الذي أهرقه باعتباره أحد المدّاحين، ومن طبيعة الكرم أو الطمع، ألا يكتفي المداحون بالسكوت بعدما يحصلون على ما يريدون، بل يتوغلون إلى أبعد من ذلك بمدة زمنية طويلة في كتابة مقالات أخرى «فوق البيعة»، أو طمعا في مكاسب جديدة لم توفرها كمية الحبر التي بذلت في السابق.
اليوم، ومع الأنباء الخاصة بقرب انطلاق الزميلة اليومية العربية الرابعة في البحرين «الميثاق»، نجد أن الأمر يحتاج إلى وقفة جادة في الميدان الصحافي المحلي، إذ أن المخاوف والهواجس التي رافقت ولادة «الأيام» في 1989، وتلك التي رافقت «الوسط» 2002، كانت ترتكز على محورين أساسيين وهما: إمكان تقبل السوق المحلية مزيد من الصحف اليومية، في بلد لا يزيد أهله من البحرينيين على نصف مليون نسمة، إلى جانب الكثير من الأجانب الوافدين الذين لا يجيدون العربية، ومنهم العرب الذين لا يحفلون كثيرا بالصحف المحلية، إذ تظل قلوبهم معلقة في بلدانهم، وصحف بلدانهم، هذا على مستوى التداول والبيع.
والمحور الثاني يتحدث عن تفتت سوق الإعلان بين أكثر من صحيفة، وبالتالي، قد تبوء الصحف كلها (كلما تزايدت) بالخسران المبين، وأن السوق الإعلانية في البحرين ليست في اتساع شبيهاتها في المملكة العربية السعودية أو الكويت أو الإمارات، وليست في قوتها أيضا، فإما أن الدخل سيقل في كل الصحف، وبالتالي تفوت الفرص للتطوير وترقية هذا القطاع المؤمل منه أن يكون شريكا أساسيا في دفع العجلة الإصلاحية، ورفع السقف الديمقراطي، وإما أن تدخل الصحف الأربع في «حرب» أسعار الإعلان الطاحنة، والتي لا تسيء إلى الصحافة فقط، بل، وتدمر صناعة الإعلان نفسها، وتقوض الشركات والمكاتب العاملة في هذا المجال في معركة «كسر عظم» بين الصحف المتنافسة، بينما الزبون يبحث دوما عن الأسعار الأرخص، بغض النظر عن أي أمر آخر.
ولكن الأهم والأخطر من هذا وذاك، أن حركة، لابد أن تستجد الآن في الصحف المحلية الأربع، وتبدأ عمليات الاستقطاب، وانتقاء من سيقوم بماذا من داخل الجسم الصحافي المحلي، وهذا أمر مشروع تفرضه ثقافة السوق، فالصحافي المحترف، كاللاعب المحترف، ينجذب إلى العرض الأفضل ماديا، ويأتي في المقام التالي توافق التوجهات الأساسية للصحيفة مع رؤيته، إن كانت له رؤية خاصة يود ترجمتها، أو المنصب الجديد الذي يُوعد بأن يتبوأه.
وسط هذا كله، يدور السؤال: أين الصحافي البحريني؟
والسؤال هنا ليس عن الصحافي الذي يتقدم إلى العمل في الكتابة «في أي شيء» كما سبق للكثيرين أن تقدموا بهذه الصفة، ولكنه الصحافي المؤسس علميا، المتخرج في كلية إعلام أساسا، المتسلح بالمعارف الصحافية التي بها ترتقي المهنة.
طُرح الأمر منذ فترة وجيزة، عندما كانت نقابة الصحافيين (تحت التأسيس) و«جمعية الصحافيين» البحرينية تتحاوران من أجل التوصل إلى توحيد لائحتي النظام الأساسي في كلا الكيانين، فتم التشبيه في قضية جزئية بالمحامين. فعندما بدأت مهنة المحاماة في التشكل في العقود السالفة، استطاع البعض ـ بفضل وجوده في أروقة المحاكم لفترة طويلة، والاطلاع الذاتي، والملكات الفردية ـ أن يصبح محاميا، وأن يترافع في القضايا، ولكن ما إن استقر واقع القضاء والتقاضي والمرافعات في البحرين، وتم تفصيل المحاكم إلى درجات واختصاصات، حتى تم منع أي محام غير حائز الشهادة الأكاديمية من مزاولة المحاماة، وذلك حفظا للحقوق، وارتقاء بالمهنة.
وعلى رغم تزامن تنظيم القضاء والمحاكم في البحرين على يد «المستشار»، وكذلك نشوء الصحافة على يد «الزايد» (أو «الزائد» كما يطلق عليه أحيانا)، فإن تنظيما لم يلحق بالصحافة كما لحق بالمحاماة، على رغم الأهمية التي تتبدى يوميا في هذا الأمر، فمن دون صحافة وإعلام قوي، واثق الخطى، صحيح البنيان، أكاديمي المنهج، لا يمكن أن تتأسس في البحرين صحافة قوية تكون لها موروثاتها ونهجها، وتقاليدها، وستظل الأمور تجري كيفما تشتهي رؤى قياداتها ومُلاكها، وإن كان ذلك مخالفا للمنطق الصحافي، أو الأسس العلمية لهذه المهنة.
كان التفاؤل هو السائد عندما تم افتتاح قسم للإعلام في جامعة البحرين، بوصفه القسم الذي سيبدأ في تخريج الصحافيين الأكفاء، والذين ستقوم على أكتافهم صحافة المستقبل، بينما كان التشاؤم مورده أن ليس في البحرين سوى صحيفتين (آنذاك)، والإقبال على قسم الإعلام جعله بين ليلة وضحاها من أكبر الأقسام، وأكثرها اكتظاظاَ، على رغم ارتفاع قيمة التسجيل في تلك الفترة والتي كانت تصل إلى 700 دينار في المتوسط للفصل الدراسي الواحد.
إلا أن القرب من عدد من الدارسين في ذلك القسم كشف عن قضية متعددة الاتجاهات، وكلها تصب بعيدا بما فيه الكفاية عن أن يكون خريجو هذا القسم هم زاد الصحافة البحرينية الآتية. إذ أن عددا من الدارسين في هذا القسم إنما انتظموا فيه لأنه «أسهل الطرق للحصول على الشهادة» كما يقولون، أو لأن أصدقاءهم سبق لهم أن انتظموا فيه، وهم بالتالي لا يطيقون البعد عنهم، فالتحقوا بالقسم نفسه، أو لأن البعض منهم لم يجد الكلية التي تقبله، وبعضهم كانت عينه على وظيفة «علاقات عامة» في شركة أو مؤسسة أو وزارة، وقلة قليلة، ربما لا ترى بالعين المجردة، هي التي تريد أن تتخرج لتمارس الإعلام، بشتى أنواعه، وبالتالي ستتقسم هذه القلة بين إذاعة وتلفزيون و... صحافة، باعتبار أن الصحافة متعبة مرهقة، وأنها عمل بـ «دوامين»، أو هو دوام مفتوح، وأن الحياة أجمل من أن تضيع في هذه الأروقة.
ومع عدم إمكان الدخول الآن في نقد البرامج التي قدمت إلى الطلبة من جانبها التكويني الصحافي في الأساس، فإن المشكلة تنفتح على بابها السيئ مع الأسف كلما بشرتنا الأخبار بأن صحيفة أو مجلة على وشك الصدور، ذلك أن التساؤل لابد أن يُطرح: «ومَنْ سيعمل فيها؟».
في ظل الاستقطاب بين الصحف المذكورة سابقا، وفي ظل الإحجام الكبير الذي يسيطر على مخرجات قسم الإعلام من الجامعة، يبقى هناك حلان أحلاهما أمر من صاحبه: إما اللجوء إلى استجلاب صحافيين من الخارج، وبالتالي تفقد البحرين الميزة التي ترفعها عن الكثير من دول الخليج الأخرى، وهي تميزها بالعنصر الوطني العامل في كل مراحل الإنتاج، عكس دول أخرى ومنها الكويت التي «يترفع» فيها العنصر الوطني عن الممارسة اليومية، مضطجعا على أريكة «الأعمدة» و«الزوايا»، تاركا كل مراحل الإنتاج بلا استثناء إلى من هم من غير أبناء الوطن، وإما القبول بتوظيف من يتقدم إلى الكتابة في «أي شيء» لأن «شيئا» آخر من الوظائف التي لها كادرها الثابت، والتي تحترم قطاعها ومهنتها، بل و«صنعتها» لم تقبل به.
الأمران لهما انعكاسات جد خطيرة إذا ما أمعنا النظر في الأفق المأمول أن تصل إليه الصحافة في البحرين، وبالتالي، الخطر ذاته منسحب على جملة قضايا تتعلق بالحريات العامة، ودعم التوجهات الديمقراطية، وتحسس نبض هذا الشارع
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 149 - السبت 01 فبراير 2003م الموافق 29 ذي القعدة 1423هـ