«إن الهدف النهائي لاستراتيجيتنا الشرق أوسطية هو الانتقام من إيران باعتبارها بلدا ارهابيا وأكثر الدول إثارة للمشكلات في محور الشر»!
هذا الكلام جاء على لسان الكولونيل الأميركي هيغ وورث وهو يتحــــدث إلى الإذاعـــة البريطانية الـ BBC، بتاريخ 21 يناير/ كانون الثاني الجاري ويضيف في جانب آخر من حديثه فيقول: «عندما نحيّد العراق فإن محاصرة إيران ستكون قد اكتملت، وعندها سيحين الوقت لحزب الله وكل الارهابيين الخطرين الآخرين الذين أوجدتهم ودعمتهم هذه الدولة المتوحشة والخارجة عن القانون منذ العام 1979م ان يدفعوا الثمن!».
عندما نضع هذا التصريح إلى جانب تصريح سبقه لمسئول أميركي سابق تحدث عن الموضوع نفسه ليخلص إلى القول: «إن العراق هدف تكتيكي وان السعودية هي هدفنا الاستراتيجي ومصر هي الجائزة الكبرى».
عند ذلك أستطيع ان أفهم وأستوعب ما قاله وزير الخارجية الجزائري السابق أحمد طالب الابراهيمي وهو يحاضر في «جنادرية» المملكة العربية السعودية عن «العرب والمسلمون في الإعلام الغربي»، إذ قال: «إن هذا المخزون من الحقد والكراهية الذي انفجر ضد العرب والمسلمين بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، على رغم مأسويته ليس سببه هذه الحوادث التي كان يمكن التعامل معها بطريقة مختلفة تماما، بل سببها انهم يبحثون عن عدو مزعوم لم يجدوه إلا في الإسلام، وان المستهدف هو أسس تلك الحضارة التي أنشأها العرب بالتعاون مع شعوب أخرى مثل الفرس وغيرهم من الشعوب المتمدنة تحت راية الإسلام...».
ثم ان من يتابع بعمق وتأمل وهو يستمع لإذاعة «سوا» الأميركية الموجهة ضد العالم العربي، وإذاعة «راديوفردا» أي «صوت الغد» الموجهة ضد إيران المسلمة واللتين أقرتهما الأجهزة الاستخباراتية الأميركية من أجل تلميع الوجه الأميركي لدى شعوبنا وتشويه صورة بلادنا أمام أهلها في المقابل فإنه سرعان ما يكتشف الآتي:
أولا: وجود حسٍّ انتقامي واضح يوجه السياسة العامة لهذه الوسيلة الإعلامية ضد كل ما هو أصيل وحضاري لدى العرب والمسلمين.
ثانيا: وجود غاية مبطنة لكنها جامحة لدى المشرفين على هذه الوسيلة الإعلامية لفرض قبول من هو ما هو طارئ في بلادنا، وبتحديد أكثر دولة الكيان الصهيوني وممارساتها وسياساتها العدوانية عبر آلية مخادعة باتت مكشوفة لدى جمهور العامة من شبابنا والتي تريدنا أن نقف مثلا على مسافة واحدة في الموقف بين ما يسمونه بالعنف الصادر عن (الاسرائيليين) والعنف الصادر عن الفلسطينيين! أي الموقف الواحد بين الجلاد والضحية!
ثالثا: وجود غاية واضحة وغير مبطنة هدفها تمييع أكثرية السكان في بلادنا والذين هم من دون سن الثلاثين من خلال إشاعة «ثقافة»! اللامبلاة والعبثية و«الرفاهية»! والدعة والتسليم بقدر «العولمة» وكل ما يرد إليهم مما وراء البحار باعتباره هدية العالم المتقدم الحر النزيه والمسالم!
رابعا: وقد يكون هو الهدف الآتي والملح الذي يدغدغ أحلام وأماني ورغبات الكثير من النخب المتغربة أو المترددة في بلادنا ألا وهو دفعها إلى التطوع للقيام بمهمة «التغيير والإصلاح» تحت الراية القادمة من وراء البحار باعتبارها «المنقذ والمخلص الشعوب من حكومات وأنظمة شاخت وصار تغييرها واجبا ومصلحة مشتركة بين تلك النخب والقوة الأعظم!!».
وهنا بالذات يمكن فهم وادراك ما ذهب إليه الكولونيل الاميركي السالف الذكر الذي بدأنا حديثنا بأقواله إلى الـ BBC، فهو يعرف تماما ماذا يريد ويعرف أيضا إلى من يوجه خطابه في هذه اللحظة التاريخية التي تتكالب فيها مجموعات يائسة وبائسة ممن طردهم الشعب الإيراني العظيم صافع الحضارات والذي يملك آليات التغيير والإصلاح الوطني والديني الخاصة به والنابعة من جذوره وليست القادمة من وراء البحار والمدعومة من قوى أجنبية تبيت الشر لإيران المسلمة لا لذنبٍ اقترفته إلا لأنها أعادت إيران إلى الإسلام وأعادت الإسلام إلى إيران، وقررت مناصرة العرب واسناد قضيتهم المركزية في فلسطين منذ العام 1979م.
على أية حال، فثمة من يتوقف طويلا اليوم في إيران امام حقيقة النوايا الأميركية وراء الحملة والعدوان الثلاثي المرتقب على العراق، ولا سيما بعد تصريحات كولن باول الأخيرة بالسيطرة على صناعة النفط العراقية ووضعها «أمانة»! لدى الإدارة الأميركية لصالح الشعب العراقي أو بتخوف من المستقبل الذي يمكن أن يتكرر مع بلدان المنطقة جميعها، وليس العراق وحده.
وفي هذا السياق يقول مصدر خبير بالشئون العراقية في إيران: «ان خطر الالتفاف على أهداف الشعب العراقي في التغيير بات كبيرا جدا وان الأمور قد تفلت من الجميع وتداعيات ذلك على الأمن الاقليمي قد تكون هي الكارثة بعينها».
غير ان آخرين يقولون إن الشعب العراقي كما هو شعب إيران وكما هي شعوب المنطقة سوف لن تقبل بأن تكون هكذا «أمانة في صندوق ودائع» كولن باول أو غيره. بل ان هذا الشعب العراقي العظيم هو نفسه وبقيادة علماء دينه صنعوا فيما صنعوا ثورة العشرين الشهيرة كما ساهموا فيما ساهموا في صناعة الثورة الدستورية في إيران في العام 1906م.
وفي هذا السياق يذكر كاتب عراقي مقيم في «قم» في إيران، وهو كمال السيد حادثة تاريخية لأحد كبار علماء الدين الإيرانيين حصلت له مع عدد من السفارات الأجنبية في العام 1907م لها دلالات عميقة ينبغي استحضارها الآن. والحادثة هي: «عندما حوصر العلامة الكبير الشيخ فضل الله نوري في منزله ـ وهو من كبار مفجري الثورة الدستورية بعد التفاف الانجليز على المشروطة واختراقهم لها ـ حاول السفير الروسي فيمن حاولوا من السفراء كسب الشهيد والاستفادة من موقعه، فأرسل علم بلاده ليرفعه فوق منزله لحمايته... لكن الشيخ رفض ذلك قائلا: لقد قضيت سبعين سنة من حياتي تحت راية الإسلام، ولا أريد ان أقضي بقية عمري تحت راية الكفر... ردوا العلم من حيث جاء».
إنها قصة معبرة لمن يريد ان يعتبر، ودرس بليغ لمن يريد التتلمذ على يد التاريخ، ولاسيما تاريخ علمائنا الأعلام الذين ميزوا على الدوام بين الإصلاح الوطني المنشود و«الإصلاح» الأجنبي المردود
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 149 - السبت 01 فبراير 2003م الموافق 29 ذي القعدة 1423هـ