من الواضح أن السياسة الأميركية الضاغطة، تدفعنا إلى منحدرات سياسية عسكرية جديدة تحقيقا لمصالحها الحيوية، وخصوصا في ترسيخ مفاهيم قيادتها المنفردة في العالم، حتى بالقوة المسلحة!
تضعنا هذه السياسة في تناقض فج، فهي تدعو ليل نهار إلى الإسراع بالتحديث والتطوير الديمقراطي، الذي بحثنا عنه طويلا، ولكنها في الوقت نفسه تفرض علينا خيارات صعبة، مؤداها القبول بنظم حكم جديدة غير النظم القديمة، تقوم على تولي أهل الثقة أصدقاء أميركا، حتى لو كانوا من خارج اطار النخب السياسية التقليدية، أي وصولا للنخب العسكرية...
وما يدفعنا إلى هذا الاستنتاج، هو ما نتابعه على مدى أكثر من العام في أساليب التعامل الأميركي على أزمتين متلازمتين أو متداخلتين، هما الأزمة الأفغانية، والأزمة العراقية... وما سيأتي بعدهما هو الذي يمكن أن نتصور سيناريوهاته المستقبلية، وخصوصا في سياق الدعوة الأميركية «لتعليم العرب والمسلمين» أصول الحكم الديمقراطي، وفق مبادرة الجنرال باول وغيرها من المبادرات الملتبسة!
فلم يعد خافيا على أحد هنا أو هناك، أن الحاكم الفعلي في أفغانستان الآن، هو الحاكم العسكري للقوات الأميركية الموجودة هناك، منذ أن بدأ الهجوم العسكري الأميركي الساحق، على أفغانستان، انتقاما من الهجمات الانتحارية على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001.
باسم الحرب العادلة، أو الحرب الدولية ضد الارهاب «الاسلامي» ممثلا بحكومة طالبان برئاسة الملا عمر وبتنظيم القاعدة بقيادة اسامة بن لادن، المتهمين الرئيسيين بتدمير وتنفيذ هجمات سبتمبر، بدأت أميركا حربها الواسعة في أفغانستان، لتكون نقطة الانطلاق في توسيع هذه الحرب إلى دول ومناطق أخرى من العالم، ووضعت القيادة الأميركية هدفين لحربها هذه، أولا تدمير البنية الأساسية «لتنظيمات الارهاب الاسلامي» هناك، وثانيا تغيير نظام الحكم في أفغانستان، ليس فقط باسقاط الحكم الطالباني المتشدد، ولكن باقامة نظام حكم «ديمقراطي» وبتحرير الشعب الأفغاني - وخصوصا النساء - من قبضة الاستبداد والتشدد والفقر والفساد والتطرف...
هكذا جاء «الرئيس» قرضاي إلى قمة السلطة فوق دبابة أميركية في الواقع، ومن خلال انتخابات، أو ترتيبات شعبية نظرية قال عنها الأميركيون إنها عملية ديمقراطية... لكن بقيت الحقيقة ثابتة وهي أن الرئيس المنتخب، قد جاء بإرادة أجنبية تحميه قوة أجنبية هي التي تسيطر وتحكم، من دون أن نعرف أن أفغانستان أصابها ربيع الديمقراطية فعلا، أو أن المجتمع القبلي الفقير بدأ مسيرة تقدمه!
على الناحية الثانية، لم يعد سرا أن سيناريوهات مستقبل العراق ونوع الحكم القادم فيه، هي الآن موضع النقاش والبحث والاختراع، بعدما أصبحت الحرب حتمية من وجهة النظر الأميركية، ولايزال الهدف الأميركي في العراق، هو الهدف ذاته في أفغانستان، مع بعض الفوارق...
الهدف المعلن إذن، هو أولا تدمير القوة الرئيسية لأكبر دولة في «محور الشر»، وخصوصا تدمير ترسانته المزعومة من أسلحة الدمار الشامل، التي تصر أميركا - وحدها - على أنها موجودة داخل العراق، وأنها تهدد أمن واستقرار ليس فقط دول الجوار، ولكنها - للغرابة - تهدد الأمن القومي الأميركي من نيويورك شرقا إلى كاليفورنيا غربا!
والهدف ثانيا، هو اسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين والمجيء بنظام جديد يقوم على الديمقراطية ترعاه الولايات المتحدة وتؤمن له مسيرة الحكم، ربما على النموذج الأفغاني...
وفي جانب من السيناريوهات الأميركية بشأن مستقبل العراق، تبدو لنا في الأفق أكثر من علامة ظاهرة، أولها تفتيش ومحاصرة العراق وتقسيمه على أسس عرقية طائفية، إلى ثلاث دويلات واحدة كردية في الشمال، وثانية شيعية في الجنوب وثالثة سنية في الوسط حول بغداد، ثم تقوم فيدرالية بينها جميعا في النهاية، حتى لا يكون في العراق بعد اليوم حكم مركزي...
وثانيها البحث المضني عن «حاكم عراقي جديد» ينصب ديمقراطيا ويختار أميركيا بالضرورة لينفذ المطلوب منه، طالما أنه وصل كرسي الحكم على دبابة أميركية مثل قرضاي الأفغاني...
والواضح ان الجهود الأميركية فشلت حتى الآن في اختيار «رئيس» جديد للعراق، من بين شتات فصائل المعارضة العراقية، بعدما اختبرت الجميع وفشل الجميع في اجتياز الامتحان الأميركي، فبدأت هذه الجهود بحثها عن «جنرال» عراقي يؤدي المهمة الصعبة في الظروف الصعبة!
وإلى أن يحدث ذلك فالمقرر أن يتولى جنرال أميركي حكم العراق لعدة سنوات، يتم فيه «إعادة تأهيل الدولة والمجتمع والقيادة»، أي أن يتولى حاكم عسكري أو مندوب سام أميركي - على النموذج الاستعماري الكلاسيكي - حكم العراق فعليا ولا بأس أن يقف إلى جواره أو خلفه أو حتى أمامه، جنرال عراقي، سواء من الجنرالات المنشقين، أو من الجنرالات المكافحين. حتى الآن في الداخل، يحكم باسم التحديث والتطوير الديمقراطي والخلاص الوطني وازاحة الحكم الاستبدادي... الخ.
وبصرف النظر عن رأينا في طبيعة النظام العراقي القائم، مثله مثل كثير من النظم العربية المعادية للديمقراطية والتحديث والتطوير، وهو رأي معلق منذ سنوات طويلة، فإن موقفنا المقابل من فرض نظم حكم جديدة بقوة القهر والفزو والاجتياح، أمر مرفوض جملة وتفصيلا، حتى لو استغل الأميركيون في ذلك، المبرر الدولي إياه المعروف باسم «حق التدخل الانساني» أو حتى لو رفعوا شعارات براقة من نوع انقاذ الشعوب المقهورة من قادتها الطغاة.
ولذلك لا نظن أولا، أن النجاح بأي شكل سيحالف هذا الاسلوب الأميركي، سواء في العراق أو في افغاستان أو في أية دولة عربية سيأتي الدور عليها بعد ذلك، ليس فقط لأنه مرفوض شعبيا ومدان بالخيانة والعمالة، ولكنه مرفوض عالميا وانسانيا وربما أميركيا، أي من الرأي العام الأميركي في طوائفه الواعية والمستنيرة، التي تعرف أن هذا الأسلوب الأميركي هو ارتداد بغيض للنمط الاستعماري القديم، جربته الامبراطوريات البريطانية والفرنسية والاسبانية وغيرها من قبل وفشلت بحكم التاريخ، مثلما جربته أميركا ذاتها في دول شرق آسيا وأميركا الجنوبية - جمهوريات المحور - لكنها لم تجنِ منه سوى الهموم كما هو ثابت.... والخطورة هنا، أن أميركا باسم الديمقراطية، تشجع من جديد عودة حكم الانقلابات العسكرية التي عرفتها منطقتنا منذ نهايات الاربعينات، بداية بانقلاب الجنرال حسني الزعيم في سورية امتدادا لغيرها، ولقيت معظم هذه الانقلابات تأييدا أميركيا علنيا أو ضمنيا آنذاك لأسباب معروفة، في ظروف تاريخية معروفة عربيا واقليميا ودوليا، لم تعد قائمة اليوم...
ولن تجنى أميركا علينا نحن الشعوب فقط، بإحياء الحكم العسكري هنا أو هناك وتشجيع المغامرة بذلك أو استسهال القيام به فقط، ولكنها ستجني على مصالحها أيضا في الوقت نفسه، الأمر الذي يبدو غائبا عن نادي المتشددين والصقور الأميركيين، الذي يخطط ويرسم السياسة الخارجية الأميركية الآن، والذي ازداد تشددا بعد هجمات سبتمبر الدامية!
وإن كنا نعتقد أنه لا يغيب عن بعض النخب السياسية المستنيرة في الداخل الأميركي، التي تحذر باستمرار من تشجيع المغامرات العسكرية، في بسط الهيمنة الأميركية على العالم بقوة السلاح، التي تجر ورائها نتائج سلبية خطيرة على أميركا، وعلى القيم والمبادئ الديمقراطية التي تدعو لها الأمة الأميركية في العالم، مثلما تجر نتائج أكثر سلبية على الشعوب المقهورة تحت سنابل الهيمنة العسكرية الأميركية وتوابعها من «القادة العسكرييين المحليين» المختارين بعناية طبقا للمقاسات الأجنبية!
هنا بالضبط نقع نحن في المأزق الدرامي العنيف...
تطالبنا أميركا وتضغط علينا باسم ضرورة التطوير الديمقراطي والاصلاح السياسي الديني التعليمي الثقافي، والانفتاح والاندماج الاقتصادي في سوق العولمة، وهو مطلب يلتقي مع متطلعات شعوبنا ورغبتها منذ أزمان، طلبا للتقدم والتحرر والتنمية والعدل الاجتماعي والحكم الرشيد واقتسام السلطة والثروة في الغنم والغرم...
لكن السياسة الأميركية المعلنة والمطبقة حتى الآن، تعمل في اتجاه معاكس تماما، حين تعمد إلى تفريغ دعوتها إلى التطوير الديمقراطي هذه من جوهرها الأصيل، بل تعمد إلى عسكرة الديمقراطية، كما حدث في أفغانستان، وكما يعد للعراق، وكما سيحدث بعد ذلك في أكثر من مكان...
بين الضغطين الأميركيين المتناقضين، نقع نحن في المنتصف أسرى كل عوامل الضغط وكوابح التناقض... نحن ننشد الحكم الديمقراطي السليم ونسعى إلى ترسيخه خروجا من أزمات الفقر والتخلف والاحباط والفساد والاستبداد، نلتقي مع «الدعوة» الأميركية لاشعاعة المبادئ الديمقراطية الأصيلة والسليمة، باعتبارها أصلح نظم الحكم التي توصلت إليها الانسانية حتى الآن من وجهة نظر الغالبية العظمى من شعوب العالم...
ونحن في الوقت ذاته، نرفض الاسلوب الأميركي في اطاحة النظم الحاكمة بقوة الغزو والهيمنة العسكرية، ونرف عسكرة الاصلاح والتغيير حتى لو رفع شعارات الديمقراطية، أو جاء من طريق «رسول جنرال، تهيئ له السياسة الأميركية كل الظروف... هنا نختلف بل تنتاقض مع السياسة الأميركية هذه فنرفضها علنا، ليس فقط لأنها تقطع الطريق على أي تطور ديمقراطي داخلي سلمي، بل لأنها تعيدنا إلى عصر الاستعمار المباشر، وسلطة المندوب السامي البغيضة، فوق أنها تعيد تأكيد الدعاية الصهيونية القائلة إن إسرائيل هي واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، على رغم أنها ديمقراطية شكلية وعنصرية، يحكمها جنرالات المؤسسة العسكرية بتحالفها على المؤسسة الدينية المتعصبة!
ولأننا في عمق المأزق التاريخي العويص نقع، فمسئولية الخروج منه ليست مطلوبة من واشنطن أو لندن، ولكنها مسئوليتنا نحن في الأصل والأساس...
هي مسئولية العقول المفكرة في مجتمعاتنا، صاحبة البصيرة والرؤى المستنيرة، في أن تتجمع وتتحاور وتسرع في البحث عن أسباب الوقوع في المأزق أولا، وأساليب الخروج منه ثانيا...
فالأمر المؤكد أن وصول حالنا إلى الدرجة التي تشجع أميركا على فرض وصايتها علينا بهذا الشكل الحاد والجاد، لم يكن ليحدث لو لم تشجعها أوضاعنا المتخلفة عليها، نحن الذين قصرنا في الماضي، وللانزال نقصر في الحاضر، فنرهن المستقبل في أيدي غيرنا، وقد حان الوقت لوقف كل ذلك، ليس فقط بالشعارات الرنانة والخطب الفنانة، ولكن بالفكر المنظم والعمل المنتظم...
هكذا نطرح ضرورات الاصلاح الشامل الواعي الآن وفورا، بدلا من الوقوع في براثن عسكرة الديمقراطية وفق النموذج الأميركي المطروح، على أفغانستان بالأمس وعلى العراق اليوم، وعلى الباقي غدا..
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 148 - الجمعة 31 يناير 2003م الموافق 28 ذي القعدة 1423هـ