العدد 2234 - الجمعة 17 أكتوبر 2008م الموافق 16 شوال 1429هـ

تحولات النخبة الغربية... فرانسيس فوكوياما نموذجا! (1)

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

لطالما كان المفكر الأميركي وأستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة جون هوبكنز فرانسيس فوكوياما مثيرا للجدل في مختلف أطروحاته أو قل نبؤاته الفكرية الراديكالية التي قدمها وعلى رأسها ما ذكره بشأن «الإنسان الأخير» و «نهاية التاريخ» في أواخر ثمانينات القرن الماضي، والتي أشار إليها كانتصار النموذج أو قل «البراديغم» الليبرالي، وهو ما جعله في حينها في موضع الواعظ أو القسيس المبشر بفكرة ودعوة وأيديولوجيا ليبرالية خلاصية لا محيد عنها، وإن كان هنالك العديد من النخب الثقافية العربية والمشرقية ممن لم ينزعوا ويتخلوا عن ذواتهم المعذبة والمضطهدة والمتعالية رداء ومضمون الواعظ سواء أكان هذا الوعظ ماركسي أم قومي أم إسلامي وحتى ليبرالي!

ولكن وبمتابعة تلك التحولات الحقيقية التي طرأت منذ فترة على أطروحات فوكوياما من خلال مقالاته المنشورة في الصحف والدوريات الأميركية وربطها بما شهده العالم من أحداث مصيرية كبرى ومنها ضربة روسيا لجورجيا وحتى الأزمة المالية العالمية التي اعتبرها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بـ «نهاية عصر الاقتصاد الحر»، فإن فوكوياما في هذا الصدد قد يقدم أنموذجا حقيقيا للمثقف العصري ولسمات مجتمعات النخبة الغربية المتسمة بالمرونة والتعددية الفكرية والرؤية الحقيقية مع القابلية الحيوية للمصارحة والمراجعة النقدية التي لا تحول بين المثقف ودوره الرسالي «الإنتلجنسي» بل تعززه وتجدده، ومثل أنماط التحول تلك السائدة في مجتمعات النخبة الغربية هي أنماط إنتاجية لا استهلاكية كما هي بالنسبة إلى الضفة الأخرى من العالم!

وفي الوقت ذاته تشهد بعض النخب لدينا أكانت معممة أو ملتحية أو «أفندية» العديد من التحولات «المايكل جاكسونية» التي وتستعيض من خلالها عن الكتابة بالسكين والدماء إلى استعمال الروج الأحمر بدلا منه فإن هذا النموذج من التحولات المدمرة يعيد إنتاج المثقف بأطروحاته المتجددة وإنما يكرس وضعيته كوضعية التابع السلعي والاستهلاكي المستورد بشكل دائم وتبقى ذخيرتها الدائمة المتمثلة في «الأدلجة» المفرغة للأفكار من مضامينها وروحها الحقيقية لصالح صورتها الاداتية الشكلية قادرة باستمرار على مواصلة تدمير أحلام التغيير والنهوض لدى هذا المجتمع النخبوي ومجتمع العامة وتكريس الإحباط والحرمان بما فيها وضعية المثقفين النيوليبراليين العرب أو «الليبراليين العرب الجدد” بحالهم البائسة من بعد بروز وانكشاف حقيقة الدعاوى الأميركية الزائفة بنشر الديمقراطية والتحول الاستراتيجي من العقيدة سالفة الذكر إلى التركيز على تحقيق الأمن والاستقرار في المنطق.

وأخيرا ورغم أن الأزمة المالية العالمية التي كشفت اللثام عن سقوط نموذج الرأسمالية النيوليبرالي سقوطا مدويا، ومع ذلك لا تزال هذه النخب تبدي أدوارها وتحولاتها الحقيقية كما لو أنها وكيل مبيعات أو وكيل تسويق وإعلان مرتبطة بعقود مؤقتة للدعاوى الأميركية الامبريالية بدلا من الاقتداء بسادتهم من النخبة الغربية المروجة للنموذج النيوليبرالي والديمقراطية الأميركية في تحولاتها، ومثل هذه النخب الاستهلاكية والمؤدلجة للأطروحات الليبرالية لن تعتذر لقرائها أو تعد مراجعة نقدية حقيقية لمآل أفكارها التي عصمتها بعصمة معسكر «المحافظون الجدد» في أميركا ولن تتخلى حتى الآن عن ادلجتها لــ «الليبرالية» واعتبارها جنة عدن!

وحتى لا ننشغل بأوضاع النخب العربية البائسة وعلى رأسهم «الليبراليون العرب الجدد» ومأزقهم الأيديولوجي فإننا سنذكر عددا من الأمثلة حول تحولات فوكوياما تلك بدءا من مقاله «يمكنهم الذهاب بعيدا جدا» المنشور في صحيفة «الواشنطن بوست»، حيث اعتبر في مقاله ضربة روسيا لجورجيا بمثابة تحول جديد في السياسة الدولية، كما انه وبشجاعة راقية يقارن ما بين دعوته ونبوءته التي ذكرها في العام 1989 بشأن انتصار النموذج الليبرالي الأميركي وما بين الوقائع الحالية التي تشير إلى تراجع الهيمنة الأميركية في العالم وتضعضع استفرادها القطبي بشؤونه وخصوصا مع بروز النموذج الروسي والصيني الجامع لمزيد من الأوتوقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية.

وإن كان فوكوياما يشير إلى أن الديمقراطية والرأسمالية مازالتا تتمتعان بوضعية عدم وجود المنافس الحقيقي لهما إلا أنه يدعو في الوقت ذاته إلى عمل مقارنات نوعية بين الحكومات السلطوية الموجودة في زمن الحرب الباردة والحكومات السلطوية الحالية في الصين وروسيا والتي تختلف عن سابقتها من خلال ضعف استنادها إلى الأفكار والأيديولوجيا التبشيرية، وهي بالتالي لا تزال تجد في التكيف مع الديمقراطية والليبرالية بآلياتها الخاصة خيارا جاذبا، وهو هنا بالتالي يعتبر أن المنافسة الرئيسية للديمقراطية على صعيد فكري تأتي من «الإسلام الراديكالي» الذي تمثله إيران التي يعتبرها «أخطر دولة في العالم» على العكس من «الإسلام الراديكالي السني الذي حقق فشلا ماحقا في الهيمنة على الدولة والسيطرة عليها ليس إلا بسبب اتجاهه الفطري نحو التخلص من المؤيدين في النهاية مستشهدا في ذلك بما كتبه بيتر بيرجين في «الواشنطون بوست».

ويشبّه فوكوياما روسيا حاليا بأنها أقرب إلى استعادة إرثها القيصري السابق وإحياء الروح الوطنية وإعادة الاعتبار للكرامة المجروحة كقوة عظمى بطموحات صغيرة، وليس كالاتحاد السوفياتي المستند على أفكاره الكبرى، وبالمثل الصين التي حققت نموذجا جذابا للدول النامية عبر الخلط ما بين الحكومة السلطوية واقتصاد السوق.

ويشير إلى أن النموذج الأوتوقراطي الصيني في صبغته النهضوية والتحديثية قد لا يتطابق إلا مع تلك الأجزاء الجغرافية من شرق آسيا التي تشاطر الصين مخزونها وموروثها من القيم الثقافية والتي تتعلق بحس المسئولية الأخلاقية والمصلحة العامة من دون وجود قيود على سلطة الإمبراطور، ويضرب عددا من النماذج لقادة بعقول تحديثية بدءا من أسرة ميجي الأرستقراطية في اليابان التي كان لها الفضل في تأسيس اليابان الحديثة وحتى الزعيم الكوري الجنوبي بارك شنغ هي والزعيم السنغافوري لي كوان يو، وبالتالي فإن نموذج المسئولية الأبوية العامة الذي تتبنى قيمه تلك الأنظمة لا يمكن أن توجد إلا بشكل نادر جدا في إفريقيا والشرق الأوسط.

ومثل تلك الوضعية المعقدة للنموذجين الروسي والصيني الصاعدين بقوة والمغايرين للاتحاد السوفياتي وصين ماو تسي تونغ تدفع فوكوياما إلى الدعوة إلى خلق إطار مفاهيمي دقيق لفهم العالم غير الديمقراطي عسى أن يحقق ذلك التحرر من ربقة الماضي المستعاد كأسطورة، كما يدعو في الوقت ذاته إلى نزع الإحباط واليأس من بقاء الأفكار الأميركية قوية حتى في عصر «ما بعد أميركا»، فالمأزق المعقد الذي تواجهه أميركا بشأن هيمنتها العالمية المفردة يكمن في تقارب المصالح الذاتية للقوى الكبرى عبر الاقتصاد العالمي في حين تظل الخطورة واردة كون تلك الدول الأوتوقراطية والرأسمالية الكبرى أقوى وأثرى من الدول الشيوعية السابقة التي دخلت معسكر الليبرالية الأميركية في ما بعد!

ويشدد فوكوياما إلى عدم الإغفال عن نقطة مهمة ستشكل مستقبل السياسة الدولية مع صعود القوى السلطوية الكبرى، وهذه النقطة المحورية تتعلق بمدى توافق عوائد الإنتاجية الاقتصادية مع الطلب العالمي على الموارد الرئيسية كالنفط والغذاء والماء، حيث أن أي خلل بينهما سيقود حتما العالم إلى مرحلة قد تشهد تطبيق «النظرية المالثوسية» المتصورة لزيادة عدد السكان عن الموارد الغذائية وضرورة تحديد النسل، وستكون هنالك دول رابحة وأخرى خاسرة وسيسود العالم مزيد من الصراع حينما يستند النمو على القوة المجردة وصدفة الموقع الجغرافي أكثر من اعتماده على خلق البنيان المؤسسي الجيد.

وسنتناول في المقال القادم بإذن الله تعالى رؤية المفكر الأميركي الليبرالي فرانسيس فوكوياما بشأن «الأزمة المالية العالمية»

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2234 - الجمعة 17 أكتوبر 2008م الموافق 16 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً