يبدو مؤتمر وزراء خارجية دول الجوار العراقي ومصر، الذي عقد في اسطنبول في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، ولقاء القوى الفلسطينية الذي بدأ أعماله في القاهرة برعاية رسمية مصرية في اليوم التالي، وكأنه لا جامع بينهما. تعلق مؤتمر اسطنبول بمحاولة القوى الإقليمية التعبير عن موقفها ضد مشروع الحرب الأميركية المحتملة على العراق والقيام بجهد نصف الساعة الأخيرة لمنع اندلاع هذه الحرب. وهذا هو مغزى عدم دعوة الكويت للمؤتمر، وهي التي تحولت الى قاعدة عسكرية أميركية. أما لقاء القاهرة فهو مؤتمر فلسطيني وطني محدود يحاول إعادة بناء التلاحم الداخلي الفلسطيني في مواجهة مخاطر متزايدة، داخلية وخارجية. الحقيقة ان المؤتمرين يحتلان وجهين لحال واحدة تسود أجواء المنطقة وتسيطر على مقدراتها السياسية، حال السباق المحموم بين عاصفة أميركية هيستيرية هوجاء توشك على اجتياح العراق والمنطقة والعالم، وإحساس عميق بالخوف والعجز والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من المصالح الوطنية والقومية ينتاب معظم عواصم المنطقة، بما في ذلك تلك المعروفة بعلاقاتها التقليدية التحالفية مع واشنطن.
بعكس انطباع الوهلة الأولى، الذي تركته التحركات السياسية التركية العاجلة.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي مهدت للقاء اسطنبول، فإن الدولة التركية بمراكز قواها كافة تعارض فعلا مشروع الحرب الأميركية، وتحاول جهدها لتعطيل الحركة نحو الحرب أو منعها، وفي أسوأ الأحوال المنأى بتركيا عن مجرياتها. الذين تصوروا أن الحكومة التركية الجديدة تحاول فقط استرضاء الرأي العام التركي المعارض للحرب من خلال القيام ببعض التحركات الدبلوماسية الشكلية (كما يقول المتحدثون باسم دول المنطقة المتورطة في مشروع الحرب) مخطئون. الدولة التركية هذه المرة، بحكومتها ذات الميول الإسلامي وجيشها ذي التوجهات العلمانية وعميق الصلة بالمؤسسة العسكرية الأميركية، كما بأحزابها السياسية جميعا تقريبا، لا تريد حربا جديدة في المنطقة ولا سيما حربا أميركية على العراق.
تركيا هي أحد المستفيدين اقتصاديا من الوضع الحالي بينما ستضع الحرب أعباءا جديدة وثقيلة على الاقتصاد التركي الذي يعاني من التراجع منذ أكثر من ثلاثة أعوام. ولكن الأهم هو الاحتمالات السياسية للحرب والاحتلال الأميركي المتوقع للعراق. فالاتراك أولا لا يريدون عراقا تسيطر عليه الولايات المتحدة، يتحول الى قاعدة استراتيجية لنفوذ أميركي متسع في الشرق الأوسط. ولا يريد الاتراك عراقا يسيطر عليه الإسلاميون من حلفاء إيران في حال فشلت واشنطن في السيطرة على الأمور (وهذا هو الأرجح) وأجبرت على الانسحاب كما أجبرت من قبل في لبنان. وتركيا أيضا لا تريد رؤية فيدرالية عراقية تعطي لأكراد العراق حكما ذاتيا ينعش من طموحات أكراد تركيا (الأكثر عددا) في الاستقلال. الدرس المهم للقرن العشرين أن الأميركيين في معظم المناطق التي وجدوا فيها في العالم لم يحلوا من مشكلات تلك المناطق ولم ينجحوا في إقامة الاستقرار، بل أضافوا إلى عوامل التفجير والقلق. ومن العبث قياس حالتي اليابان وألمانيا، الخاصتين جدا، بالعراق.
ما ينطبق على تركيا ينطبق على إيران وسورية والسعودية ومصر، وان كان بأشكال مختلفة. فهذه الدول جميعا تعاني من أزمات اقتصادية، كما تعاني من أزمات سياسية متفاوتة الحدة، وتستشعر إضافة إلى ذلك غضب رأيها العام المتزايد من السياسة الأميركية في المنطقة. تخشى هذه الدول جميعا وجودا أميركيا دائما في الجوار، سواء نجح هذا الوجود في التحكم بالوضع العراقي أو فشل في ذلك وأدى إلى سلسلة من الانفجارات السياسية العراقية الداخلية. نجاح أميركي نسبي في العراق سيفتح ملفات إيران وسورية والسعودية ومصر، وهذا ما أعلن صراحة في واشنطن. أما حالة من عدم الاستقرار العراقي فستؤدي الى تصعيد في التوجهات الراديكالية في المنطقة، صعود جديد لقوى الإسلام السياسي، ومعركة دموية واسعة الأبعاد بين الولايات المتحدة والمنطقة العربية، معركة هي الأولى في تاريخ العلاقة بين الطرفين.
مؤتمر القاهرة من ناحية أخرى هو في جوهره ليس مؤتمرا للحوار الفلسطيني - الفلسطيني، حتى وان بدا كذلك. مؤتمر القاهرة هو في الحقيقة مؤتمر حوار بين الدولة المصرية والقوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، بين مصر وكل قوة من هذه القوى على انفراد بين ومصر ومجموع هذه القوى معا. تتعلق الدوافع الرئيسية لهذا الحوار أولا بما تسعى إليه القاهرة، بتنسيق مع الاتحاد الأوروبي، لإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، بمعنى إتاحة الفرصة لإعادة بناء مؤسسات الحكم الذاتي وبسط السيطرة على القطاعات الشعبية كافة من دون أن يتسبب هذا في إشعال حرب أهلية فلسطينية. وتتعلق ثانيا، بتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وواشنطن لمحاولة تجنيب الوضع الفلسطيني أسوأ آثار الحرب الأميركية على العراق على افتراض ان الحرب مقبلة لا محالة. خلف ذلك كله تقع حاجة مصرية لإعادة توكيد دور القاهرة العربي والفلسطيني والدولي، سواء في مواجهة الدولة العبرية، أو في المنظارين الأوروبي والأميركي للمنطقة وقواها. الغزو الأميركي للعراق، كما يدرك الجميع، لن يفتح ملف الحكم العراقي فقط، بل سيفتح ملفات أخرى كثيرة، بعضها قد حدد فعلا في واشنطن والبعض الآخر سيكون نتاج التداعيات غير المحسوبة لحرب تكاد تقسم العالم كله الى معسكرين متضاربين. وليس هناك من شك في أن الملف الفلسطيني هو أحد أهم هذه الملفات.
خلف ذلك أيضا تطور لم يكن ربما في حسبان الأطراف ذات العلاقة بمؤتمر القاهرة سواء الأطراف الفلسطينية، أو مصر ذاتها، أو حتى الدولة العبرية والقوى الدولية، فبعيدا عن تفاصيل اللقاء، الأخذ والرد السابقين على انعقاده، وتعقيد المسائل التي تدور حولها جلساته، بل وحتى بعيدا عن إمكانات نجاحه أو فشله، يؤشر لقاء القاهرة الى متغير بارز في السياسة المعربة وتعاملها مع المسألة الفلسطينية. هذه هي المرة الأولى التي تلتقي فيها كل القوى السياسية الفلسطينية تقريبا في العاصمة المصرية منذ مطلع السبعينات. وعلى رغم أن القاهرة حافظت دوما على دور مهم خلف الستار في صناعة القرار الفلسطيني من خلال العلاقة مع الرئيس عرفات وغالبية أطراف القيادة الوطنية الفلسطينية، وأن القوى العربية والدولية اعترفت دائما لمصر بدور رئيسي في المسألة الفلسطينية، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها الدولة المصرية في تفاصيل الوضع السياسي الفلسطيني بشكل مباشر وملح ومستمر. عندما بدأ التحرك المصري في الساحة الفلسطينية ربما لم يكن أحد بين المسئولين المصريين يتصور أن هذا التحرك سيتطور الى عمل واسع النطاق يشمل كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني وأنه سيعيد القاهرة من جديد عاصمة لفلسطين. ولكن استغراق القاهرة وذهابها الى المدى الذي ذهبت إليه يعني إننا نتوجه نحو مرحلة من القيادة المصرية الفعلية للوضع الفلسطيني، قيادة تعوض حال الشلل والغياب التي تعاني منها القيادة الفلسطينية، وعجز أي من بدائل الرئيس عرفات عن إحراز تأييد الغالبية الفلسطينية.
فشل مؤتمر اسطنبول في تحقيق نتائج فعلية يمكنها التأثير على توجهات الحرب الأميركية، بينما مازال الحكم على لقاء القاهرة معلقا. على رغم أن المؤتمرين في أسطنبول أزادوا التعبير عن موقف مشترك ضد خيار الحرب ومشروع السيطرة الأميركي، إلا أنهم فشلوا في بلورة رسالة واضحة في هذا الشأن. بعض الأسباب وراء هذا الفشل تتعلق بموقف عربي تقليدي يرفض إعطاء تركيا دورا قياديا في منطقة يشكل العرب غالبيتها. وبعضها الآخر يتعلق بعجز الدول المشاركة وخوفها من قطع نصف الميل الأخير في مواجهة السياسة الأميركية. إن كان هناك من يقف في التوجهات الأميركية نحو الحرب، فهو ان هذه الحرب لا يمكن ان تقع من دون تواطؤ بين دول الجوار، أو بعضها على الأقل، والولايات المتحدة. في الأوضاع العادية ليس هناك من شك في أن أيا من دول الجوار لا تستطيع الوقوف في وجه الولايات المتحدة، بل وتبدو كلفة سياسة المواجهة في غالبية الأحيان أثقل مما تستطيع دول المنطقة تحمله. ولكن هذه ليست أوضاع عادية، وقد أصبح من الضروري لمصلحة دول المنطقة (وليس لمصلحة العراق فقط) ان تقول لا واضحة لواشنطن. ان تقول لا لمطالب واشنطن استخدام أراضيها قواعد للعدوان، ان تقول لا لمطالب واشنطن تقديم تسهيلات برية وجوية وبحرية للحشود العسكرية الأميركية والبريطانية، أن تقول لا لكل ما يتعلق بمشروع الحرب. وعلى دول المنطقة الرئيسية فوق ذلك ان ترفع صوتها ضد حفنة الكيانات الصغرية التي حولت أراضيها كلها تقريبا إلى قواعد حشد ممتلئة بالقوات الأميركية، وان توضع هذه الكيانات أمام مسؤلياتها تجاه شعوبها وتجاهه المنطقة ككل. هكذا تمنع الحرب.
ما يوحد العراق وفلسطين هو سياسة العدوان الأميركية ضد العرب والمسلمين، وحال المرارة والعنف والصدام التي تولدها هذه السياسة داخل المنطقة وفي العلاقة بينها وبين العالم الغربي. ولكن المشكلة أنه حتى في القاهرة يبدو أن الضغوط المصرية تصب جميعها في الاتجاه الخطأ. ان من المشروع والمسوغ والمهم ان تحاول مصر العمل على إعادة بناء الصف الوطني الفلسطيني وتعزيز وحدته. ولكن المطالبة بوقف إطلاق نار فلسطين شامل في كل المناطق وضد كل الأهداف هو مطلب غير واقعي وغير ممكن التحقق. بل حتى المطالبة بإيقاف الهجمات الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية داخل الخط الأخضر بينما تحتل القوات الإسرائيلية كل فلسطين. تمارس حملة تطهير عرقي ضد الفلسطينيين عبر تدمير مناطق سكنية بأكملها وتدير مصادر الرزق والمعاش، هي مطالبة لا تصب في الاتجاه الصحيح. قبل أن يطلب من الضحية تقديم تنازل ما، فعلى القاتل ان يتوقف عن زرع الموت في كل مكان واتجاه. ربما لا تستطيع القاهرة، أمام دعم أميركي أعمى لشارون وسياسة العدوان الإسرائيلي، ممارسة ضغط ما على الدولة العبرية. ولكن القاهرة ليست وسيطا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والمخاطر التي تتهدد غزة والضفة الغربية تهدد الأمن المصري الاستراتيجي أيضا، بل تهدد الأمن العربي كله (أو ما تبقى منه على الأقل). فرض الاستسلام على القوى الوطنية والإسلامية ليس في مصلحة القضية الفلسطينية، وهو في أحد وجوهه استسلام عربي.يعكس هذا السباق المحموم من أسطنبول الى القاهرة كثيرا من نفاذ صبر المنطقة وشعوبها في مواجهة السياسات الأميركية والإسرائيلية، والمخاطر التي تولدها هذه السياسات. ولكن من غير الواضح حتى الآن إن كانت نتائج هذا السباق ستصب في حانة العجز وتعميق حال الخوف أو في تعزيز المصالح الوطنية والقومية
العدد 147 - الخميس 30 يناير 2003م الموافق 27 ذي القعدة 1423هـ