إقليم الشرق الأوسط إقليم منقسم على نفسه، واجتماع اسطنبول الأخير يؤكد ذلك ولا ينفيه، في أضابير التاريخ تعثر على وثائق من الأرشيف البريطاني تشير إلى تخوف من علاقات إيجابية بين أطراف هذا الإقليم الفاعلة، وهو تخوف حقيقي يبرز بوضوح في أوراق الإمبراطورية البريطانية في الثلث الأول من القرن الماضي، وقتها كان الخوف من اتفاق سعودي (بقيادة المرحوم الملك عبد العزيز) وإيراني بقيادة رضا شاه، وتركي بقيادة الذئب الأغبر مصطفي كمال أتاتورك، قد يؤدي إلى تحالف إقليمي يخرج النفوذ البريطاني من المنطقة، ويقف سدا ضد أي نفوذ آخر، وكانت القيادة في هذه البلدان تفكر في تعاون بينها، يقود فكرته وقتها المرحوم الملك عبدالعزيز بن سعود، وأفسد هذا التحرك الإقليمي التدخل الغربي المضاد والنشط. ومن يومها لم تقم للإقليم المهم هذا أية أنشطة تعاونية فيما بين دوله، بل كان التعاون بين بعض دوله، أما تحت المظلة الغربية مثل الأحلاف التي نشأت لخدمة تلك المضلة، أو التنافر الذي قاد إلى أشكال من الصراع النشط كالحرب، أو الخامل كالتنافر في السياسات.
اليوم لم تعد تركيا كما كانت، فلديها مشاغلها التي تركز على اولويات الدخول في النادي الأوروبي، والذي تعتقد انه سبيلها لحل المشكلات الاقتصادية المزمنة، كما أن إيران لها مشكلاتها الإيديولوجية و السياسية، وتبقى الدول العربية المحيطة و القريبة من العراق و التي يبدو أن ليس لها موقفا موحدا مما يجري، على الأقل لما بعد اليوم الأول، أي بعد تغيير النظام القائم، وشاركت في الاجتماع من دون أجندة خاصة بها.
من الملاحظ أن بيان الدول الست رقص على السلم، فهو لم يرضِ العراق، لذلك لم تأتِ عليه في وسائل إعلامها المحكومة بيد حديد لا تخرج عن المرغوب فيه و المرضي عنه، ولم ترضِ المعارضة العراقية (عراق المستقبل) ولم يرضِ أيضا الولايات المتحدة، قد يكون ذلك فاتحة خير بصورة من الصور، فهو حيادي إذا، ولكن بعض التصريحات التي أعقبت الاجتماع بينت بلا جدال أن الدول منفردة لها أفكارها الخاصة بها، وأنها (ضد الحرب ولكن لا تستطيع أن تقف أمام المكنة الأميركية) في الوقت نفسه، الذي يبدو أنها ستستغني حتى عن (أوروبا القديمة) فرنسا و ألمانيا، فتحالفاتها الأخرى تغنيها، وتُدعى المعارضة العراقية للمحافل الدولية، كمقدمة لاعتراف بها.
التركيز الأهم هو إيجاد سبل لمنع الحرب، وهو هدف لا يستطيع عاقل إلا أن ينسجم معه، فالحرب تخلف أهوالا قد نتوقع بعض نتائجها اليوم، وقد لا نستطيع توقع نتائجها الأخرى، وقد خضنا في هذه المنطقة سلسلة من الحروب الضروس، ولا يوجد عاقل إلا ويتمنى أن لا تقع، ولكن التمني شيء، و الواقع شيء آخر، فحتى بيان الدول الست في اسطنبول شدد على أن يقوم العراق (بالتحرك بجدية وبصدق نحو الاضطلاع بمسئولياته في استعادة السلام و الاستقرار في المنطقة) وفي (بدء سياسة تجلب الثقة بلا أية مواربة مع جيرانه) وكذلك (اتخاذ خطوات حاسمة إزاء الوفاق الوطني) مع مواطنيه.
كل ذلك جميل ويضع الكرة في التشبيه العام في ملعب القيادة العراقية، ولكنها في وادي آخر، فلو كانت من هذا الوادي لما وصلت إلى هذا المنعطف الحرج.
بحرب أو بغير حرب يبدو أن التغيير في العراق وارد، من دون حرب أضراره اقل، بحرب أضراره على العراق والمنطقة أكبر من أن تحسب نتائجها اليوم.
إلا أن الأمر الآخر هو ماذا بعد اليوم الأول، أي ماذا بعد تغيير النظام في بغداد؟ ذلك السؤال الذي يطلق عليه سؤال المليون دولار أو يزيد لأن إجابته ضرب من التمني أكثر مما هي حساب الواقع.
هل يعوض العراقيون بإقامة نظام ديمقراطي بشكل ما وتعددي وشفاف، يسوده حكم القانون، في التاريخ السابق للتدخل من قبل الولايات المتحدة، نجد أن نسبة الفشل في إقامة مثل هذا النظام تفوق نسبة النجاح، فقد تدخلت الولايات المتحدة الأميركية في العالم في القرن الماضي بحوالي ثمانية عشر بلدا، نجحت في خمسة منها في إقامة (نظام ديمقراطي حديث) أي أن نسبة النجاح لا تتعدى ثلاثين في المئة، و إذا استعرضنا المجتمعات التي نجحت الولايات المتحدة في إقامة حكم (ديمقراطي حديث فيها) سنجد أن لها مواصفات معينه، فهي أولا أوروبية أو شبه أوروبية، منها إيطاليا وألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها اثنان في أميركا اللاتينية، هما بنما (دولة صغيرة) وجرينيداد (جزيرة صغيرة) البلاد الكبيرة التي بنيت فيها الديمقراطية هي بلاد تتمتع إلى حد ما بوجود مؤسسات سابقة على ذلك التدخل، كان بالإمكان تعضيدها ومساعدتها، ظهر ذلك في كل من إيطاليا واليابان وألمانيا.
في بقية الدول التي تدخلت فيها الولايات المتحدة، استطاعت أن تزيل الأنظمة المستبدة من دون أن تنجح في أن تقيم بديلا عنها أنظمة (ديمقراطية)، حدث ذلك في كوبا وجمهورية الدومنيكان، وهايتي ونيكارجوا وجواتيمالا، وعلى رغم التدخل المتكرر في بعضها، مع وجود عسكري أميركي طويل زمنا، في الغالب الفشل في إقامة حكم ديمقراطي كان مرادفا للتدخل، ففي أوائل القرن العشرين بقيت القوات الأميركية في هايتي تسعة عشر سنة، وفي نيكارجوا أربعة وعشرين سنة، وفي كلا الحالين جهود الولايات المتحدة فشلت في إقامة حكم حديث.وفي أفغانستان مازالت التجربة ساخنة، نجحت في تجنب الأسوأ، وهي حرب أهلية، إلا أن الخيط الأبيض من الخيط الأسود لم يتبين بعد في إقامة دولة وبناء مؤسسات.
في العراق الإطاحة بحكم دكتاتوري لا يعني تلقائيا إقامة حكم ديمقراطي حديث، ذلك سيعتمد على العراقيين أنفسهم، بعد كل ما قاسوه من سوءات النظام الشمولي، إلا أن الدول المحيطة بالعراق اهتمت بمحاولة ترشيد النظام القائم، وتقديم النصائح المغلظة له، والتي تعرف قبل غيرها انه ليس في وادي السماع لنصائحها، وأهملت بشكل كبير قطاعات الشعب العراقي وممثليه، وهو الشعب الذي ليس لمثل مواطنيه في الديسبورا عددا غير الفلسطينيين.
إغفال الشعب العراقي و ممثليه في المعارضة يؤسس إلى مشكلات مقبلة في المنطقة، فهو لن يرى بعين الرضا في المستقبل أولئك الذين تجاهلوا مصالحه في سبيل إرضاء النظام الحاكم، حتى ولو كان ذلك اتقاء لشره، وهو أمر من الضروري طرحه على متخذي القرار في الدول المحيطة بالعراق، لأنها مضطرة إلى أن تتفاعل مع أي نظام مقبل، والذي ستكون المعارضة الحالية جزءا ربما كبيرا منه، وإن لم تكن كذلك، فسيكون لها في المستقبل إذاعاتها وصحفها ومحطاتها التلفزيونية الدولية.
لو قدرنا جدلا النظر في سيناريو مستحيل، وهو أن تنقضي الأشهر القليلة المقبلة من دون تغيير النظام في العراق، وأن هذه الجيوش الجرارة عادت إلى مواقعها في بلدانها، ماذا يمكن أن يحدث، بالتأكيد ليس استقرارا إقليميا، فالنظام العراقي لن يعتبر ذلك إلا نصرا مؤزرا لكل أطروحاته القديمة، كما سينظر إلى أي البلدان التي اضطر تحت ضغط الظروف أن يسترضيها بالمال والتجارة والنفط أنها قامت (بابتزازه) فهو بالتأكيد سيفكر في طرق كثيرة للانتقام.
إذا ليس بالضرورة أن بقاء النظام العراقي سيقود لأي استقرار في المنطقة، بل ربما على العكس من ذلك، سيقود إلى اضطراب شديد، قد يكون اقل منه خطورة تغيير النظام في الظرف الحالي، و التفاعل الجدي مع ممثلي المعارضة بكل أطيافها يضمن الاستقرار المطلوب في المستقبل
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 145 - الثلثاء 28 يناير 2003م الموافق 25 ذي القعدة 1423هـ