طبعا سمعتم عن الصراع بين الدول الكبرى والصغرى، وبين الشمال والجنوب، وبين الرأسمالية والشيوعية، أو بين طبقة العمال والبرجوازيين، وبين الأحرار والديكتاتوريين، ولكن... هل سمعتم عن نظرية الصراع بين «المدن» و«القرى»! قد تعجبون كما عجبت، ولكنها نظرية تقوم بعض الأقلام بالترويج لها والتسويق لبضاعتها، ولا ندري على أي مستنقع آسن من الفتنة المستقبلية يشرع هؤلاء أبوابنا لتلقي رياحها الهوجاء ؟
والظاهر أن بعضنا، تسوقه عقدة دائمة بضرورة وجود صراع دائم، وقتال دائم... «كالنار تأكل بعضها... إن لم تجد ما تأكله!» وإذا لم يوجد موضوع للصراع فلابد من اختلاق مشكلة وإثارة أزمة، وهذه المرة شاءت إرادتهم واختارت عبقريتهم، أن يكون الصراع بين «القرى» و«المدن»!
هل الوضع يتحمل مثل هذا التوصيف؟ وهل البلد يتحمل مثل هذا التشخيص؟ وما الثمن الذي سندفعه جميعا ضريبة تداعيات مثل هذا الطرح غير المستقيم؟
أخبروني عن القرى
لو سألنا ما القرية؟ ما الذي يحددها؟ التاريخ المتغير أم الجغرافيا الثابتة؟ حجم المساحة أم كثافة السكان؟ لعلنا نجد إجابات متفرقة، واجتهادات متعددة من أساتذة الجغرافية، ولكني أجيب بثلاث كلمات: انها روح البلد.
إذا أردت أن تتعرف على روح أي بلد فاذهب إلى الريف، اذ الطبيعة التي مازالت أقرب الى الصفاء، والبيئة الأقرب إلى العذرية، والنفوس التي لم تدنسها شرور المدنية والأمراض المستوردة من وراء المحيطات، أو إذا أصابتها فاللوم أكثره على من استوردها أكثر ممن ابتلي بها. ومن دون حساسية أو ادعاء، من أراد أن يتأكد فليذهب إلى الريف في كل مكان يزوره. خذ مثلا عندما تزور لبنان إذهب إلى الجبل، لترى صفاء الروح اللبنانية الأصيلة، التي لم تخالطها أتربة بيروت وترفها وبذخها وأقنعتها... وهكذا. إذا أردت أن تتعرف على روح أي بلد فاذهب إلى النبع.
ثم ما الخط الفاصل بين القرية والمدينة في هذا البلد الصغير؟ هل يمكن أن نضع خطا فاصلا بين الماحوز والمنامة؟ أم بين توبلي ومدينة عيسى؟ أم بين الرفاع وبوكوارة؟ القرية والمدينة في بحرين اليوم لا يفصلهما غير شارع واحد، والأعمال والمدارس والمصالح ووو.. كلها عملت على تغيير تلك القاعدة التي فرضت نوعا من البعد «الجغرافي» بين سكان القرى والمدن، يوم كان الناس يتنقلون على الدواب، أما اليوم فلا يوجد بيت ليس فيه سيارة أو أكثر، والبلد يمكنك أن تقطعه من المحرق حتى رأس البر في أقل من ساعة واحدة، وهو من الصغر بحيث لو اقتلع من وسط الخليج ووضع إلى جوار الرياض أو بغداد أو طهران لما شكال غير ضاحية صغيرة من ضواحي هذه الجارات - اذ يمكن أن يتكلم الآخرون عن المدن والقرى - وبعد ذلك يأتي البعض ليقيم بطروحاته الفواصل والحواجز بين أبناء بلد صغير لا يتجاوز سكانه 600 ألف، ولا تزيد مساحته على 600 كم مربع.
ما اسم قبائل البحرين؟
هل فاجأكم أحد بالسؤال عن أسماء «القبائل» المشهورة في البحرين؟ هذا السؤال فاجأني به أريتري في مكة المكرمة التقيته صدفة فوق جسر يطل على مقبرة الحجون الشهيرة. وعنصر المفاجأة اننا لا نتكلم عن القبائل هنا في البحرين، فهذا البلد - الذي كان زراعيا - لم يعرف الصحاري والفيافي والقفار، وهو صغير جدا إلى درجة إذا حدثت حادثة في زاوية من هذا المثلث المتمدد في قلب الخليج صباحا انتقلت أصداؤها إلى الزاويتين الأخريين قبل أن تغرب الشمس! فضلا عن أن العلاقات الاجتماعية لم تقم على روابط قبلية بالمعنى الشائع في دول الجوار، بمقدار ما قامت على روابط معيشية فرضها نمط الحياة القائم على الزراعة والغوص، ثم النفط واقتصاد الخدمات. جغرافيا البلد كان مهدا لحضارة قديمة، وتاريخيا أشبه بواحة خضراء وسط المياه المالحة، صيغت حولها الأساطير حتى صورتها بأرض الخلود، فلما بزغ الإسلام هذبها بروحه السمحة. وما أجبت به ذلك العابر الأريتري بعد امتصاص صدمة السؤال بأننا «لا يوجد لدينا قبائل وإنما عوائل كبيرة ذات أسماء معروفة». والبلد من الصغر ما لا يتحمل معه حياة القبائل وصراعاتها وجاهلياتها وأوهامها... وما يقوم بين القبائل من حروب بسبب الجمل «داحس» والناقة «الغبراء»!
إنصاف لا استعطاف
القرية ليست بحاجة إلى نظرة عطف أو استعطاف، وإنما بحاجة ماسة إلى الإنصاف. القرية ليست بحاجة إلى نظرة إشفاق وإنما إلى تصحيح تلك النظرات العنصرية المخلوطة بالاحتقار، التي إن تركت تأصلت لتطل في المستقبل برؤوسها مثل الشياطين. وبعض الأقلام تتحدث عن القرية وأهلها «المقبلين من كل فج قروي عميق»، وكأنهم من عالم آخر يسوده الفقر والجهل والأمية والتخلف، ولا يترددون في الحكم عليها باعتبارها أماكن للتخلف والهيمنة الدينية، وكأن الدين عار ينبغي غسله! مع أن هناك أطرافا أخرى مسئولة عن انتشار كل تلك العوامل غير أهل القرى، أو على الأقل «هم شركاء في الثلث»! ولكن هؤلاء ليست لديهم الشجاعة بالوقوف أمام الأطراف المتسببة في فقر القرى وإفقارها، ولا في استمرار نسبة الأمية بعد أكثر من خمسة وثمانين عاما من انتشار التعليم النظامي في البلد.
أحد أسباب نكبة القرية هي تلك النظرة المتعالية التي «يتمتع» بها بعض أصحاب «النظارات السميكة» وربطات العنق والبدلات «السموكن» الأنيقة. القرية كفاها إهمالا واستنقاصا، وكفاها نظرة دونية متخلفة، وكفاها روحا عنصرية، كان آخر تجلياتها في تلك النزعة المشبوهة في محاولة إلقاء اللوم عليها فيما حدث من عبث في شارع المعارض عشية رأس السنة.
القرية بحاجة إلى تطبيق مبدأ «تكافؤ الفرص»، والتخلص من تلك النظرة الدونية السقيمة التي ما دخلت بلدا إلا خربته ودبت بأذرع الفتنة في شوارعه ونواديه. وكلمة حق وإنصاف لمن أراد أن يسمعها: ان ما شهدته البلاد من تغيرات إيجابية على طريق الانفتاح دفعت القرى ضريبته الكبرى أيام «أمن الدولة»، وما ينعم به هؤلاء من «جرأة» مكتسبة على الحديث عن «الفسادين المالي والإداري» اليوم، ومن حرية للكلام، بعد فترة كان يعتبر فيها انتقاد «فراش» في وزارة يقود إلى السجن. ومن المحزن أن تجازى القرى اليوم بوصفها «أماكن للتخلف»... أفهكذا يكون جزاء المحسنين؟
مرض قديم
وهو مرض لا يشخصه الأطباء، وليس لديهم في قواميسهم اسم يدل عليه، ولكنه مرض جرثومي يتغلغل في تلافيف أدمغة بعض «المثقفين» وحملة الأقلام، فيتصورون أنفسهم من أصحاب العقول الراجحة والعبقريات التي تحلق دائما في السماوات العلى. مع ان الثقافة من المفروض أن تزيد الإنسان تواضعا. والمثقف «الحقيقي»، بصفته طالب علم ومعرفة أولا وأخيرا، هو أعلم الناس بمحدودية علمه واطلاعه مهما قرأ والتهم آخر ما تنشره المطابع، في هذا العصر الذي تتفجر فيه ينابيع العلوم بشكل لم يسبق له مثيل. المثقف «الحقيقي» يفترض أن يتحلى بروح «انسانية» لا يرى لنفسه فضلا على سواه إلا بالأخلاق الحميدة والنظرة الإيجابية للآخرين، ولا يقيم الناس بحسب منطقة سكناهم وعناوين شوارعهم، فإلى أية درجة من الإسفاف يهبط إليها «المثقف» عندما ينظر إلى الناس تبعا لعناوينهم ومدنهم أو قراهم!
همسة من القلب
«إذا استأثرت بالوعي كله فما الذي بقي للعالم من ضياء؟ وإذا ادعيت الحكمة البالغة فماذا يصنع الناس بعقولهم؟ وإذا كنت معصوما فعلى الدنيا السلام».
هذا هو مرض النخب «القارئة» ولا أقول «المثقفة»، لأن الثقافة - كالصلاة - لها نورها الذي يسعى بين أيديها، وينبغي أن ينعكس على الأخلاق والتعامل والنظرة إلى الآخرين، وأن تحمل النفس نظرة احترام للآخر كإنسان في ذاته، أما من يحمل نظرة احتقار أو تحقير للآخرين، فلن تناله منهم غير نظرات الاحتقار، فـ «كما تراه يا جميل يراك»، حتى لو حمل في جيبه أربعة أقلام، وعلى ظهره أطنان الكتب التي يباهي بقراءتها الأولين والآخرين.
وبين الدعوة المتأخرة «جدا» للإعتناء بظروف «تلك» القرى، وبين استسهال رشق أهلها بالحجارة، أرجو أن تنظروا أين تضعون أنفسكم أيها المثقفون
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 145 - الثلثاء 28 يناير 2003م الموافق 25 ذي القعدة 1423هـ