حين أعلن قيام «اسرائيل» في العام 1948 اعترف الامين العام للحزب الشيوعي السوفياتي جوزيف ستالين بتلك الدولة. كان الاتحاد السوفياتي الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة التي تعترف بـ «اسرائيل». واختلف تبرير الاعتراف بين واشنطن وموسكو. رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان سارع إلى الاعتراف ليكسب صوت الناخب اليهودي في معركة الرئاسة الاميركية التي اقترب موعدها واشترط على «الدولة الجديدة» اعادة المهجّرين والنازحين الفلسطينيين إلى ديارهم لديمومة الاعتراف واستمراره. الاتحاد السوفياتي قرأ المسألة ايديولوجيا وقال لأتباعه إن «اسرائيل» دولة تقدمية في مجتمع متخلف، وهي «حصان المستقبل» لأنها ستنشر التقدم الاجتماعي في محيط اقطاعي تحكمه عائلات الأعيان وملاّك الارض.
«اسرائيل» كانت مسألة مختلفة لا صلة لها بالتنظير الايديولوجي الستاليني الجامد. كانت مجرد «دولة» استيطانية تقوم على فكرة عنصرية (التفوق) وترى ان الآخر (الغريب) هو مجرد خادم عند «الشعب المختار». وتقدمها على محيطها لم يكن سببه التطور الاجتماعي (الطبيعي - التاريخي) الناتج عن آليات نمو داخلية بل كان نتاج اللاتطور وأساسه نمو حركة استيطان اوروبية (يهودية) استغلت الانتداب البريطاني في فلسطين منذ 1918 إلى 1948. ففي تلك الفترة نشأ ما يمكن تسميته بالتحالف الصهيوني - الانغليكاني بين التكتلات اليهودية والتيار المسيحي - البروتستانتي الذي كان يحتقر شعوب العالم ويرى ان الحق الطبيعي بالتملك والسيطرة هو (منحة إلهية) اعطيت للشعوب الاوروبية (اللون الابيض) للتحكم بمسار الثروات والانسانية.
كانت الصهيونية فكرة قومية عنصرية منسجمة تماما مع التوجهات الاوروبية وميل «الابيض» إلى اعتبار نفسه درجة أرقى. وبسبب (علوّ كعبه) كان يرى ان من حقه الانتشار في العالم لنشر «رسالته» من خلال التوطن في مختلف بقاع العالم.
«اسرائيل» لم تكن حالا استثنائية وإنما هي نتاج تلك الفضاءات الاوروبية وواحدة من افرازات الايديولوجيا العنصرية التي اكتسحت القارة اولا ثم اجتاحت العالم ثانيا. قبل «اسرائيل» كانت هناك عشرات بل مئات المستوطنات في استراليا ونيوزيلندا وجنوب افريقيا وروديسيا واميركا الشمالية ايضا. حتى الولايات المتحدة يتشابه تاريخها مع تاريخ «اسرائيل»، اي انها دولة قامت اصلا على فكرة الاستيطان باستيراد البشر وأدوات الانتاج ونمط اقتصادي بالكامل من الخارج وطرد سكان البلاد واحتلال املاكهم وأرزاقهم لبناء «دولة الاحلام» في مجتمع لا يستحق برأيهم اصلا الحياة او العيش بسلام مع اناس «حباهم الله» وأعطاهم قدرات وامكانات لا يتمتع بها غيرهم من شعوب الارض.
«اسرائيل» بهذا المعنى لم تكن ظاهرة استثنائية أو دولة فريدة من نوعها، بل كانت «الدولة الاخيرة» من هذا النوع من «الفرادة». فهي راهنت على هذا التيار العنصري الاوروبي واعادة تشكيل استراتيجيتها وفق تصورات كانت سائدة في اوروبا لتبرير حركات الاستعمار الاستيطاني واحتلال أراضي الغير عن طريق القوة. وفي هذا المعنى أخطأ ستالين حين قرأ المسألة ايديولوجيا معتبرا ان «اسرائيل» هي دولة متقدمة اجتماعيا في محيط متخلف وأن وظيفتها المستقبلية هي نشر التطور في منطقة مستعصية على النمو والانفتاح.
اكتشف ستالين كارثة تحليلاته لاحقا حين تبين له ان «اسرائيل» دولة استيطانية مزروعة بالقهر في محيط شديد التمسك بهويته وتاريخه. واكتشف ايضا ان تلك الدولة بعيدة جدا عن «روح الاشتراكية». فالكيبوتزات (المزارع الجماعية) ليست اشتراكية بقدر ما هي عنصرية - رأسمالية تستورد ادوات الزراعة المتطورة لنهب اراضي الفلسطينيين واستغلالها بعد طرد السكان منها.
تغير تحليل الاتحاد السوفياتي لدولة «اسرائيل» إلا أن الاخيرة لم تتغير. فموسكو منذ الستينات اخذت تقرأ المنطقة قراءة مختلفة وبدأت ترى في «العناصر الاشتراكية» لفكرة الكيبوتزات مجرد علاقات عمل لتنظيم المزارع بشكل عسكري يضبط حركة الهجوم والاستيلاء. وتذكر قادة الكرملين آنذاك المعركة التي قادها مؤسس الاتحاد السوفياتي (لينين) ضد المجموعات الصهيونية - الاشتراكية في الحزب الشيوعي حين حاولت تشكيل نقابات خاصة بـ «اليهود» ضمن الاتحاد العمالي العام. لينين آنذاك (1917 - 1924) وجد في تلك المحاولة حركة انشقاقية عنصرية تريد تفكيك وحدة الطبقة لغايات «قومية» عنصرية ولأهداف «دينية» خاصة بمشروع صهيوني لا صلة له بالاشتراكية التي لا تميز بشريا بين إنسان وآخر. تغير تحليل الاتحاد السوفياتي وانهارت الدولة ولم تتغير «اسرائيل» وهي حتى الآن تواصل ربط مشروعها الخاص بالمشروع الدولي العام.
قبل انهيار الاتحاد السوفياتي كانت المقولات التي اطلقتها موسكو على تل ابيب كثيرة من نوع «امبريالية فرعية» أو «قاعدة متقدمة للامبريالية الاميركية» أو «معسكر حربي لمنع الدول العربية من التقدم الاجتماعي والنمو الطبيعي»... الخ من التحليلات والآراء.
الآن اختلف الوضع. فـ «اسرائيل» العنصرية - الرجعية استقطبت حوالي المليون من سكان الاتحاد السوفياتي السابق وهي تخطط الآن لاستيراد حوالي المليون من دول اخرى لإسكانهم في فلسطين. وقائد هذا المشروع هو ارييل شارون الذي اعيد انتخابه رئيسا لهذه «الحكومة».
السؤال: أين سيسكن هؤلاء القادمون ومن اين سيأتي بالارض والمال والمياه والطاقة لتأمين حياة مرفهة لهم؟.
الجواب ليس له علاقة بمشروع شارون وشخصيته بل له صلة بالاصل التكويني لدولة «اسرائيل» التي صمدت لأسباب دينية - عنصرية في وقت انهارت فيه كل المشروعات المشابهة لها في روديسيا وجنوب افريقيا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 145 - الثلثاء 28 يناير 2003م الموافق 25 ذي القعدة 1423هـ