الحديث مع الناس من فوق «البلكونة» صفة عربية وسلوك ثقافي عاجي يكاد لا يسلم منه أحد من العرب فالسلطة تتحدث مع الناس من فوق البلكونة بفوقية عالية الارتفاع، والمثقفون يخاطبون الناس وكأنهم لا يفهمون شيئا، فكلا الاثنين يتعاطيان مع الجمهور بهذه العقلية وان كانت الانظمة تتفوق على الجميع في ذلك حتى بات المواطن لا يفكر إلا في تلك العلب من السردين الثقافي التي توزعه وزارات الاعلام العربي كي يفهم ولو شيئا يسيرا من الحياة التي يراد له فهمها ولكن بختم رسمي.
وذلك هو أكبر خطر يعيشه المواطن العربي، فهو على طول الخط لا يفكر انما يُفكّر عنه، فهو محط تجارب الجميع من الرسميين والرموز والخطباء على شتى مشاربهم والقوي من يملأ الكأس اولا، وكلنا في عبادة الشخص سواء، لذلك كله نحن اساتذة في العاطفة وأكثر الشعوب استعمالا وانبهارا بالألقاب، فلربما هذه تسد شيئا من عقدة النقص التي خلقتها تلك العزلة السياسية وسياسات التهميش والاقصاء التي نعيشها فأكاديميا لانكاد نصل إلى معرفة الشخص حتى نمر بسلسلة من الالقاب، «البروفسور» «الدكتور» «العضو» «المحاضر في»... «المؤلف»...وهكذا نطوف به أكثر من كعبة كارزمية لا تنتهي الا بتأليه وهذا هو الشرك الثقافي الخفي الذي نعيشه في ذاتنا: الانبهار امام لمعان الالقاب من دون قوة الحجة وقوة الفكر. فالخطاب الانشائي هو أكثر ما يستولي على مشاعرنا ويجمد عقولنا واذا كان دينيا، فإنا نبدأها بالعلاقة حتى تصل إلى المجرد وظل الله في الارض، الى ان يتحول الى إله يعبد من دون الله تحت غطاء عبادة الله.
في نهاية المطاف الضحية في كل ذلك هو العقل.
أعطى الله لنا العقل لنفكر به، لنحلل، لنعيش الامور، لننقد ذواتنا، بيد أنّا خصوصا نحن العرب - أخذناه لعبادة الفرد أكان الفرد داعية او مثقفا او سلطة او مؤسسة، لذلك تكثر فينا الخرافات والاساطير وتعشش في عقولنا اوهام كبرى وافكار جامدة تأسرنا ونحن نقدم على احلك الظروف ظـانين اننا نسير في الاتجاه الصحيح.
ونحن نقترب من العد التنازلي لحرب الخليج الثالثة مازال الكثير من دعاة الثقافة. فضلا عن الناس العاديين البسطاء - يتكدسون امام شاشات التلفاز لا لمعرفة خطوط جهنم الحرب المقبلة وانما لكي يروا تلك الندوات الشاذة والتسطيحية على قناة «المستقلة» ليحمل كل ساذج من الشيعة او السنة دفترا وقلما كي يسجل تلك الأهداف المؤدلجة التي يسجلها اللاعبون الجدد في زمن الانهيار العربي والاسلامي.
وهذه هي المفارقة ونقطة الضعف التي مازلنا ضحايا لها، الغرب يعد العدة لحربنا وتمزيقنا ونحن نتفنن عبر هذه القنوات المخابراتية في ضرب بعضنا بعضا. اليست هذه سذاجة كبرى تدل على ذلك الجهل الذي يعيشه جزء كبير من المجتمع العربي والاسلامي؟ هل هذه هي الصحوة التي عقد لها المفكرون المسلمون أكثر من حوار «سوبرماني» استعراضي في أكثر من مؤتمر؟
وهنا لابد من عقد تلك المفارقة الكبرى ما بين ما يخطط له الغرب وما يعيشه العرب والمسلمون من واقع متخلف.
ففي الوقت الذي يعيش العالم الغربي تحالفا كبيرا لمحاصرة الاسلام في أكثر من موقع أوروبي وعربي، مازال المسلمون يتناحرون على شاشات التلفاز في قضايا مضى عليها أكثر من 1400 عام.
الغرب يفكر استراتيجيا بعقول استراتيجية والمسلمون يفكرون بعقول فتوائية متناحرة على تطويع التاريخ وكسر عنق الاحداث التاريخية لتسجيل أولمبياد التنافس الفقهي.
وكم يتمنى المرء ان يدرك هؤلاء حجم المأساة التي يخلقونها في واقع الأمة، فعلى رغم قوة الاسلام كفلسفة حياة، مازال يعمل جزء كبير من المسلمين لإضعافه من حيث يعرفون او لا يعرفون.
الرئيس الاميركي الاسبق ريتشارد نيكسون عبر عن قلقه من «المارد الاسلامي» في أكثر من كتاب له ، ففي كتابه الشهير «نصر بلا حرب» حذر من الخطر الاسلامي المقبل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وقال: الغرب سيواجه ماردا آخر هو الاسلام. هل تعتقدون ان هذا المارد يتمثل في حوارات «المستقلة» العقيمة، ابدا لو كان كذلك لقال نيكسون سيخرج علينا اسلام متأرنب هزيل ضعيف. فالاسلام القوي هو الذي يتمثل في وعي رموزه، تحضرهم، اكاديميتهم، وعيه للدين والعصر، وعلمت من مصادر موثقة - مازلت ابحث عن تأكيدها - ان هناك «فقيهين» من طائفتي السنة والشيعة يريان حرمة مشاهدة مثل هذه الحوارات الرعناء.
فإسلام الصراع الطائفي في باكستان لا يعتبر ماردا مخيفا لاعداء الأمة الاسلامية بل هو مخيف للمسلمين انفسهم، وكذلك بقية الصراعات الاخرى.
وليتنا نفهم الدرس جيدا، ففي الوقت الذي يضيّق الغرب فيه الخناق على الاسلام المتوازن، يعمد المسلمون إلى تجريح انفسهم عبر هذه القنوات.
ففي المانيا يبلغ عدد المسلمين ثلاثة ملايين فرد وعدد اليهود لا يزيد عن 100 ألف فرد، و على رغم ذلك يتم تدريس وتعليم الدين اليهودي ضمن المناهج الدراسية في المدارس الرسمية في حين يُرفض تدريس ولو جزء من المفاهيم الاسلامية للمدارس ذات الغالبية الاسلامية.
بالطبع من دون ان تميز المانيا بين مذهب اسلامي وآخر.
وتقام الدنيا ولا تقعد على وزارة العدل البلجيكية من قبل الصحافة لأنها حاولت ان تعطي صلاحية للمسلمين بانتخاب هيئة تمثلهم. فقد وقفت معظم الاحزاب والمؤسسات المدنية والصحافة بألوانها ضد هذا القرار تحت حجة ان ذلك سيعزز من ترسيخ «التعصب الديني» حدث ذلك في العام 1998، ومازال هذا العزف العدائي يكرس في اكثر من موقع ومفصل. هذا عدا عن تلك الأفلام العنصرية الاميركية وغيرها التي تعمد الى تشويه الاسلام والمسلمين في عين الرأي العالمي.
ورغم كل ذلك نجد ما يسمى بعلماء الدين يتناحرون على شاشات التلفاز بطريقة قذرة تبعث على الغثيان في زمن مازال المسلمون يخرجون من حرب ليسقطوا في حرب اخرى من دون ان يحصلوا على شيء، وحصتهم في كل ذلك الدم والبصل.
قضية فلسطين «سُلّعت» وعلّبت وراح العرب انفسهم يسدون أي افق نضالي للحل. وها هي (م. ت. ف) تسقط في الوحل الاسرائيلي هي ورموزها الذين اضاعوا مفاتيح بيوتهم وبقوا نائمين في الشارع. والتضييق مازال يزداد على المسلمين في الفلبين، في الشيشان، في فلسطين، كشمير والآن العراق، والمسلمون يرقصون على انغام الخلاف التاريخي القديم، وتراهم يستخدمون التكنولوجيا لا لأجل انعاش حضارتهم في ظل - صراع الحضارات وإنما يستخدمونها لاصطياد واقعة تاريخية مؤدلجة هنا، وراوية خلافية هناك.
ألم نقل ان المفارقة كبرى؟ فهل نحن شعوب ولدنا كي نعيش على الخلافات الطائفية وأن نشرب حليب الطائفية منذ الصغر لنعيش دائما ضعفاء في زمن لا يعرف إلا لغة القوة والاقوياء؟.
يجب ان نحرك ضميرنا الاسلامي الصحيح القائم على محبة الآخر واحترام عقائد وفقه الاخر. فمن العار ان نتقاتل على الوهم ونحن نعلم اننا نجلس الان بين أسنان السلطة والهيمنة الاميركية. يجب ان نكسر طبول رموز الفتن الطائفية في اي مكان وفي اي بلد وفي اي قناة.
فإن ما نبثه من سموم ضد قواسمنا المشتركة كمسلمين يعتبر جريمة ضد الذوق العام الآمن.
حرام ان نقتل ترابية هذا السواد الاعظم من الناس المتحابين فيجب ان نرفع من افاقهم لا ان نأسرهم في تلك الصوامع المذهبية. نحن كمسلمين محاصرون من قبل الولايات المتحدة ومن ذلك الذئب الذي مازال يعوي على ابوابنا ليلا ونهارا اعني بذلك «اسرائيل» فهل نفهم الدرس ونعلم ابناءنا محبة الجميع سنة وشيعة اخوة يجمعنا دين واحد؟
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 144 - الإثنين 27 يناير 2003م الموافق 24 ذي القعدة 1423هـ