ما قاله رئيس الوزراء التركي عبدالله غول ابان زيارته إلى الاردن: «ان وقوع حرب في المنطقة ضد العراق سيكون له عواقب وخيمة جدا». كلام في العرف السياسسي الدولي، مجرد استهلاك «محلي» للشارع التركي (اولا) ومن بعد (العربي)، بينما ما يجب ان يقال، لا تستطيع الادارة التركية قوله في الوقت الراهن، بل ان عشرات المسيرات والمظاهرات ضد العدوان المرتقب على العراق، هي ما تحرج الحكومة التركية، وربما تجعلها على تماس صعب من آليات الشارع التركي الذي يرى ان حكومته متورطة في اسرار بعيدة المدى مع الولايات المتحدة في طريق حربها المحتملة على العراق.
برز ذلك في قوله، ان جولته على دول المنطقة، تحديدا في مصر والاردن، قد فتحت المجال للادارة التركية وحكومة حزب العدالة، ان تطرح موضوع ما «سيترتب عليه الوضع بعد الحرب» وان تركيا اليوم مع «ضرورة المحافظة على حدود العراق كاملة كما يجب المحافظة على ثروات العراق...».
هل يمكن القول ان تركيا في أزمة؟
- أجل... ان الحقيقة، بعد جولة «غول» إلى الارن وسورية ومصر، وتوقع زيارته إلى ايران والسعودية، تعطي الانطباع بأن تركيا في ازمة فالضغوط الاميركية تزداد عليها لتتخذ قرارا: اما مع الحرب على العراق أو ضدها وللقرار ثمن باهظ، على الاتراك ان يدفعوه، اذا اتخذوا قرارا بدعم الولايات المتحدة، عليهم ان يقدموا لها اسنادا لوجيستيا وان يورطوا جيشهم في هجوم على أحد جيرانهم، واذا قرروا البقاء على الحياد خسروا مساعدات مالية وعسكرية اميركية ضخمة انقذت البلاد من انهيار اقتصادي كان محتما ويمكن ان تغرقها في ازمة مصيرية من جديد.
دول كثيرة تتعرض للضغوط الاميركية لاتخاذ موقف مؤيد للحرب على العراق. بعض هذه الدول اتخذ قراره، وبعضها مازال يؤجله لكن عجلة الحرب تدور وعليه حسم امره بسرعة، ويكفي في هذا المجال ان نأخذ مصر مثالا للدول العربية، ولكن لماذا تركيا تقرن خوفها بأزمة وجولات واسعة في النطاق الاقليمي، هل المسألة تأجيل البحث في عضويتها بالاتجاه الاوروبي ام سعيها إلى تجمع اقليمي مثل «الجامعة العربية» يفي بتطلعاتها السياسية المقبلة؟
ولربما كانت الحال التركية اشد تعقيدا من الحال المصرية والحالات العربية، فأنقرة ترتبط مع الولايات المتحدة والغرب عموما بمنظمة حلف شمال الاطلسي وقد اعلن الحلف انه مع الحرب، اذا كانت ضرورية، كما قال امينه العام جورج روبرتسون في آخر اجتماع للحلف في براغ لانه ملتزم اخلاقيا مع واشنطن.
الالتزام الاخلاقي الذي يقصده روبرتسون يعني ان الحلف سيدعم اي هجوم اميركي على العراق بغض النظر عن القرارات الدولية أو الانظمة التي تحكم هذه المنظمة ولاسباب معروفة فالولايات المتحدة انقذت اوروبا مرات عدة من حروب وساعدتها اقتصاديا بعد الحرب العالمية الثانية «مشروع مارشال» وكانت المرة الاخيرة حين هبت لنجدتها عندما قررت ارسال جنودها إلى البلقان خلال الحرب الصربية - البوسنية فالاوروبيون لم يستطيعوا اتخاذ قرار حسم تلك الحرب، إلا عندما تدخلت واشنطن في قلب القارة القديمة، ولأن تركيا تؤيد ليل نهار انها جزء لا يتجزأ من اوروبا، وتسعى منذ عقود للانضمام إلى الاتحاد الاوروبي، وهي ايضا عضو في الحلف الاطلسي لكل ذلك اصبحت مثلها مثل بقية الاعضاء الملتزمة اخلاقيا بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة التي تضغط على الاتحاد لقبولها عضوا فيه ولم تسفر هذه الضغوط عن نتيجة ايجابية خصوصا ان القمة لاوروبية الاخيرة قررت بحث هذه المسألة العام 2004م.
الالتزام الاخلاقي مرة اخرى، وبالاذن من روبرتسون، التزام مصالح، فأوروبا الاطلسية تبادل الولايات المتحدة «احسانا باحسان» بل تتبادل معها المصالح، على رغم التصريحات المناهضة للسياسة الاميركية في هذا البلد، أو ذاك وعلى رغم المعارضة الشعبية الواسعة في القاهرة للتوجهات الاميركية واتهام واشنطن بأنها اصبحت مركزا لامبراطورية جديدة تريد إدارة العالم كما يحلو لها.
الارتباط التركي بالادارة الاميركية الحالية، ايضا ابعد من الالتزام الاخلاقي منذ سنتين انقذت الولايات المتحدة تركيا من انهيار اقتصادي اذ ضمنت لها قروضا بقيمة 16 مليار دولار من البنك الدولي وصندوق النقد وتستطيع الآن ان تجعل هذه المؤسسة الخاضعة كليا لنفوذها تسحب تعهدها لها بهذا القرض المهم. لذلك يدور النقاش بين البلدين عن حجم الخسائر المتوقعة من الحرب وليس عن مبدأ الحرب، وقد ارسلت الولايات المتحدة، الاسبوع الماضي مساعد وزير الخزانة جون تايلور ومساعد وزير الخارجية مارك غروسمان إلى انقرة لمناقشة هذا الامر.
ونشرت الصحف التركية ان الوفد الاميركي عرض تقديم مساعدة مالية مقدارها خمسة مليارات دولار مقابل مطالب عدة سنوردها في هذا المقال لاحقا وقدر المسئولون الاتراك حجم خسائرهم اذا وقعت الحرب بـ 24 مليار دولار وقالوا: ان خسائرهم من حرب الخليج بلغت 30 مليارا فضلا عن تضرر اقتصادهم من الحصار المفروض على العراق وهو دولة محاذية كانت تستورد الكثير من تركيا.
وبعيدا عن الجانب المالي والتعويضات التي يمكن ان يصل الطرفان إلى اتفاق حولها، هناك المخاوف التركية من ان تؤدي الحرب إلى تفكك العراق وإلى قيام كيان كردي في الشمال سيكون له حتما تأثير سلبي على وحدة تركيا نفسها، لان اكرادها يناضلون منذ عقود لاقامة كيان لهم في الاناضول. ويقول الاتراك: انهم طرحوا على الولايات المتحدة اسئلة عدة لم يتلقوا اجوبة شافية عنها منها: ماذا بعد الحرب؟ اي عراق تريدون ما علاقته بدول الجوار؟ كم ستطول الحرب؟ كم سيطول بقاؤكم في العراق، أو في بلادنا اذا منحناكم حق استخدام قواعدنا العسكرية؟
وتستند هذه الاسئلة إلى مطالب قدمتها واشنطن إلى الحكومة التركية، منذ اسبوعين وتنتظر الاجابة عليها، ونستطيع تخليص هذه المطالب كما يأتي:
- نشر وحدات عسكرية اميركية في الاناضول قدرت بعض الصحف عددها بـ 80 الف جندي.
- استخدام الموانىء البحرية والقواعد الجوية بعد تأجيرها، على ان تؤمن الولايات المتحدة تجهيزها من جديد لتصبح صالحة لاستقبال الطائرات والبوارج الاميركية.
- فرز وحدات من الجيش التركي للتدريب على القتال مع الجنود الاميركيين ومشاركتهم في الدخول إلى شمال العراق.
- تقديم دعم لوجيستي للقوات الاميركية الموجودة داخل الاراضي التركية وخارجها.
- السماح لحراس القرى الاكراد «استخدمهم الجيش التركي في عملياته ضد حزب العمال الكردستاني في الاناضول» بالاشتراك مع ميليشيات البشمركة الكردية في شمال العراق بصد اي هجوم لجيش صدام حسين.
ويقول الاتراك: ان اسئلتهم التي وجهوها إلى واشنطن مازالت معلقة لكن مسئولا اميركيا اعلن ان مخاوف انقرة من قيام دولة كردية في شمال العراق لا اساس لها فضلا عن ان واشنطن قدمت لها ضمانات بالتصدي لاية محاولة تهدف إلى قيام هذه الدولة، يكفي ان يشارك جنود اتراك في الحملة على شمال العراق لكي يضمنوا هذه الناحية، ويتصدوا بأنفسهم للأكراد. شرط ان لا يجري قمعهم والقضاء على الكيان الذي اسسوه طوال السنوات العشر السابقة كي لا يتحولوا إلى حرب عصابات ضد الاتراك وضدنا في وقت نحتاج إلى تهدئة الاوضاع لا إلى توتيرها.
اما بالنسبة إلى الاسئلة الاخرى فيقول المسئول الاميركي: «ان ادارة الرئيس جورج بوش لم تقرر بعد كم من الوقت ستستغرق عملياتها، ولا شكل النظام العراقي، عدا انها تريده ان يكون ديمقراطيا، لذلك لا نستطيع اعطاء اجوبة شافية عنها». ان نشر قواتنا في تركيا، يقول المسئول الاميركي: «لا يعني احتلالا، فنحن والاتراك شريكان عسكريان في الحلف الاطلسي، ونجري مناورات دورية، مع حليفتنا اسرائيل، في المياه الاقليمية التركية ولأننا الان في حاجة إلى الموانىء وإلى القواعد الجوية فقد طلبنا ذلك، وبقاؤنا يعتمد على سرعة تحركنا لحسم الحرب على العراق ونعتقد انها لن تطول، فالنظام العراقي شبه منهار عسكريا. وقدم الاميركيون تقويما للحرب إلى القيادة التركية ليبينوا لها انها ستكون نزهة فعلا. ونشرت خلاصة ذلك في تقرير الخبراء لكي لا يتخذ طابعا رسميا. وجاء فيه ان الوضع العراقي الآن يختلف كثيرا عنه في حرب الخليج الثانية. اذ ان الطائرات الاميركية تسيطر سيطرة تامة على اجواء العراق، ولا تحتاج إلى الاغارة على المواقع التي يخزن فيها الجيش العراقي اسلحة مضادة للطائرات، فقد تم تدمير هذه المواقع خلال السنوات الماضية بغارات يومية.
وفضلا عن ذلك فإن القوات البحرية الاميركية والحلفاء تسيطر على المنافذ المائية العراقية كلها. والاساطيل تحيط بالعراق من كل جانب وهذا لم يكن متوفرا العام 1991م. اما الجيش العراقي فبسبب الحصار المفروض على البلاد لم يستطع تحديث اسلحته، وهي في الاصل كانت قديمة جدا، ومعنوياته منهارة تماما بعدما امعن صدام حسين في طرد أو اعتقال أو اغتيال المئات من ضباطه، بتهمة التآمر على النظام، لكن كل هذه التطمينات لم تقنع الاتراك فراحوا يبحثون عن مخرج للأزمة التي وقعوا فيها فعقد مجلس الامن القومي التركي اجتماعا الاسبوع الماضي، وهو اعلى سلطة في البلاد يضم المسئولين المدنيين والعسكريين، واتخذ قرارا للبحث عن حلول سلمية قبل خوض الحرب) وجاء في بيان صادر عن المجلس ان الحل السلمي يكمن في تطبيق القرارات الدولية وعندما يتخذ مجلس الامن الدولي قرارا بالحرب سيكون لذلك حديث آخر».
وجاء في البيان ايضا ان المسئولين الاتراك استعرضوا خلال اجتماعهم وقبل اتخاذهم هذا القرار «توقعات تركيا ومصالحها على المدى الطويل والتطورات الاخيرة» ويقول مسئول تركي ان ربط موقف انقرة بالامم المتحدة كان المخرج الوحيد امام مجلس الامن القومي الذي يتعرض لضغوط هائلة من واشنطن، ويرتبط معظم المسئولين فيه بعلاقات شخصية وسياسية مع المسئولين الاميركيين ويتوقع هذا المسئول ان لا تنتهي الضغوط الاميركية عند هذه الحدود، اذا قررت واشنطن خوض الحرب فعلا. وعندها لن يكون امام القيادة التركية من خيار سوى تقديم الدعم المطلوب، أو على الاقل تقديم الدعم الذي قدمته لقوات التحالف العام 1991. ويضيف هذا المسئول ان العقدة الكردية هي التي تحكمت في القرار لأن التطمينات الاميركية بمنع قيام دولة كردية لم تكن كافية، خصوصا ان انقرة ايقنت من حواراتها ومناقشاتها مع الاميركيين انهم يقصدون من الحرب ما هو ابعد من العراق، والنظام العراقي، بمعنى ان القوات الاميركية التي ستدخل إلى تركيا ستبقى فيها زمنا طويلا لأن ادارة الرئيس جورج بوش تريد ترتيب اوضاع المنطقة كلها بعد انتهاء الحرب على العراق، وواشنطن لم تجب على سؤال استراتيجي مهم بالنسبة إلى الاتراك، ولم تشركهم في تقرير مصير المنطقة أو في تصور خريطتها السياسية. وربما الجغرافية بعد الحرب ويذهب المسئول التركي إلى ابعد من ذلك، فيتساءل: ماذا لو قررت الادارة الاميركية ترتيب اوضاع ايران وسورية أو ليبيا، بعد العراق؟ وهل علينا نحن ان نتحمل معها مسئولية هذه الحروب كلها مع دول اخرى وما الثمن الذي سندفعه وما مقابل هذه الخدمات؟
لكل هذه الاعتبارات اتخذت انقرة قرارا بربط موقفها بالامم المتحدة معتقدة مثلا مثل اوروبا، بأن مجلس الامن قد يؤجل الحرب، أو بأن الاوضاع ستتغير داخل العراق بفعل الحصار والاستعدادات للحرب.
ان مثل هذه «المناورة السياسية» حيلة مكشوفة من دولة بحجم تركيا، وبما تعنيه للادارة الاميركية، فالعالم خصوصا البلاد العربية، منه تدرك حجم الدعم العسكري (...) لذي تقدمه تركيا لاميركا والتحالف الغربي (بريطانيا تحديدا) بعد حرب الخليج الثانية عقب غزو العراق للكويت 1990/ 1991، وما نتج عن ذلك من موقف، لم تخجل منها تركيا في جميع الظروف والمحطات التي واجهتها على المستوى العربي والاسلامي والدولي
العدد 144 - الإثنين 27 يناير 2003م الموافق 24 ذي القعدة 1423هـ