العدد 144 - الإثنين 27 يناير 2003م الموافق 24 ذي القعدة 1423هـ

هل مأزمنا الثقافي السائد هو امتداد لمأزم قديم؟

دمشق - تركي علي الربيعو 

تحديث: 12 مايو 2017

في الوقت الذي يتحدث فيه بعض المفكرين العرب عن نهضة عربية ثانية (ناصيف نصار) وعن إمكان نهضة الأمة العربية ككل والتي تأخذ شكل هبّة اجتماعية عارمة بحسب توصيف إسماعيل صبري عبدالله «قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999» وعن نجاحات المشروع النهضوي العربي على الرغم من فقره التراثي (محمد عابد الجابري، لمشروعه النهضوي العربي، 2000) فإن هناك إقرارا ظاهرا من قبل النخبة الفكرية العربية بأننا لا نزال نعيش في سياق الأزمة. فها هو المفكر المغاربي عبدالله العروي يؤكد مع بداية الألفية الجديدة على انه «يحق لنا أن نتكلم على أزمة عربية، بالمفرد من دون ان ننفي حقيقة الأزمات القطرية» ويؤْثر هشام جعيط عَنْوَنة كتابه الجديد بـ «أزمة الثقافة الإسلامية، دار الطليعة، 2000» وهو عنوان دال.

يقول جعيط - وهو في حال من التشاؤم والاستياء من إمكان نهضة جديدة كما يبشر بها البعض -، يقول: «في الجملة، حال العالم العربي متردية جدا في مجال الارتقاء بالإنسان ومواكبة عصره. ولعل إيديولوجيا التنمية تدخل أيضا في المسببات، لقد قتلونا بإنجازات النسيج والبناء والجلد والحديد والبلاستيك، فتقول: «طيب، هذا جيد وحصل تقدم، لكن لا تقلقوا بهذا الأمر، فأنتم بعيدون عن مستوى العالم الحديث في هذا المجال»

مع نهاية عقد التسعينات من قرننا الماضي، سبق لمثقفين عربيين ان تمحور نشاطهما عن هذا السر الذي يجعل من الزمن العربي الحديث شاهدا على إخفاق الأحلام ببناء نهضة عربية حديثة وثانية. وأشير هنا الى فهمي جدعان والى رضوان السيد اللذين يثني عليهما برهان غليون في كتابة الموسوم بـ «محنة الأمة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993» باعتبارهما خارج سرب الاتجاه المتغرب الذي يسود في حقل الثقافة العربية، واللذان ينتميان بحق الى تيار التأصيل الذي أقضّ مضجعه هذا المنحنى البياني الهابط للثقافة العربية، منذ عصر النهضة وحتى اللحظة المعاصرة.

يتساءل جدعان في كتابه «الطريق الى المستقبل، 1999» عن السر الذي يجعل من الزمن العربي شاهدا على آفاق الأحلام ببناء نهضة عربية مرتقبة؟ وعن السر في هذا التراجع الكبير عن الأهداف الجوهرية التي نصبها رواد النهضة غاية لهم ولمن بعدهم؟ فلم يدرك أحد منهم الأهداف الجوهرية التي جعلوها غاية لتفكرهم، وما تحقق جاء على غير ما كانوا ينشدون. طلب الطهطاوي وخير الدين التونسي مركبا متكاملا متماسكا من التقدم المادي الأوروباوي والتقدم الروحي الإسلامي فجاء هذا المركب بعد قرن من الزمان خليطا من الأوضاع والأحوال المتراكبة على غير نظام وفي حال من الفوضى الشاملة، وأراد الأفغاني أن يوجد «دول الإسلام» لمناهضة الضغط الأوروبي المتعاظم فانهارت الدول العظمى وترامت أشلاؤها، وهتف محمد عبده بالتجديد فساد التقليد، وهتف الكواكبي بالحرية فساد الاستبداد... الخ».

في كتابه «سياسات الإسلام المعاصرة 1997» يذهب رضوان السيد في الاتجاه نفسه يقول «خطرت لي قبل سنوات خاطرة نشرتها في إحدى الصحف، مؤداها أننا مختلفون عن العالم كله من حيث ان الثقافة والسياسة في مجالنا العربي تسير باتجاه معاكس لطبائع الأمور والأفكار. ففي المجال الثقافي محمد عبده أقل ثقافة وانفتاحا من جمال الدين الأفغاني استاذه، ومحمد رشيد رضا أقل انفتاحا من استاذه محمد عبده. وحسن البنا أقل ثقافة وانفتاحا من رائده رشيد رضا. وسيد قطب أقل انفتاحا من رائدة حسن البنا، وعمر عبدالرحمن أقل ثقافة وانفتاحا من سيد قطب».

كما يبدو، فإن الاثنين يرسمان لنا خطا تنازليا. الأول عن الأهداف الكبرى التي تخيلها رواد النهضة وأخفقوا في الوصول إليه، والثاني عن التراجع الثقافي الذي وسم الخطاب الإسلامي وجعله في النهاية خطابا مأزوما لبقية الخطابات. ولكن الاثنين يُجمعان على تزكية البدايات النهضوية الأولى، فالإصلاحية الإسلامية التي قادها التونسي والطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا، لم تقع فريسة وأسيرة ما سمي بـ «صدمة الغرب» وذلك على العكس من التيار الراديكالي العربي بفرعيه الإسلامي واليسراوي الذي وقع أسير ما يسميها جورج طرابيشي بــ «روضة الحداثة» التي أيقظت عند هذا التيار شعورا يجذّر العداء للغرب. فصدمة العرب وكما يجمع الباحثون أيقظت الوعي ولم تدفع الى النكوص. فقد أيقظت الوعي بضرورة مواجهة «هذا السيل الذي لا يرد بحسب توصيف خير الدين باشا التونسي الذي أصبح لاحقا صدرا أعظم في اسطنبول، مواجهة تهدف الى تمثل حضارة الغرب والاستفادة منها في بناء مركب حضاري ثقافي من مادية الغرب وروحية الإسلام.

كانت «صدمة الغرب» بمثابة المهماز الذي حرّك عند رواد النهضة والإصلاح ضرورة الدولة الحديثة الوطنية في العالمين العربي والإسلامي والذي سيغيب مع بداية النصف الثاني للقرن العشرين، بعد ان أدارت الدولة الوطنية ظهرها لهذا التحالف (علاقة الضباط الأحرار بالاخوان المسلمين). وتحت تأثير صدمة الغرب لجأ الإصلاحيون الإسلاميون الى آليتين. آلية إعادة اكتشاف القديم، وهذا ما أكده الشيخ رشيد رضا في مجلته «المنار» في إطار حديثه عن الشورى، وإعادة تأويل القديم تأويلا جديدا. ولكن صدمة الغرب لم تحجب عن الإصلاحيين رؤية الوجه الآخر للمشروع الحضاري الغربي الذي ترتبط فيه المعرفة بالهيمنة والسلطة على حد تعبير الجابري في نقده للمشروع النهضوي العربي. وهذا ما حدا بالإصلاحيين الى التمييز كما يرى السيد بين الغرب السياسي الذي حملوا عليه وأدانوه، وبين الغرب الثقافي الذي اشادوا به وسعوا إليه، إلى التعلم منه ونقل تجربته المنهجية المتقدمة الى المجتمعات العربية والإسلامية ولكن هذه الفروق سرعان ما تختفي كما يرى السيد مع الهجمة القوية للاستعمار مع بدايات القرن وسيظن خللا في عشرينات قرننا الماضي وفي مجالين: مجال علاقة الإصلاحية بالغرب ونظرتها إليه. والمجال الآخر في مجال علاقة الإصلاحيين بالدولة ورجالاتها. هكذا وجدت الأزمة طريقها الى وعي النخبة الإصلاحية والناجمة عن خيبة الأمل بالغرب وثقافته وسياسته، والناجمة أيضا عن بدايات الانفصال عن مشروع الدولة التحديثة التي قامت في المشرق العربي.

في مناخ الأزمة هذا، بدأ الفكر الإسلامي المعاصر بالظهور وبشكل متدرج، وعلى خلفية قطيعة تدريجية مع فكر وممارسات الإصلاحية الإسلامية، فقد شكل البنا حزب «الأخوان المسلمون» في الإسماعيلية في العام 1928. ولكن هذه الخلفية لم تصل الى حد القضية، وهذا ما يراه الجابري في نقده للمشروع النهضوي العربي، الذي يلفت نظرنا الى أن الأفغاني وليس الشيخ عبده، مثل إطارا مرجعيا لمواقف التيار الراديكالي الإسلامي من السلطة وضرورة تقويضها. فقد وظّف الأفغاني الدين في السياسة، وجاءت نتائج هذا التوظيف عبر خطاب جدل وسجال لا خطاب إثبات وعلى حد تعبير الجابري. فهو - (أي الأفغاني) - يرفض أسس الحداثة الأوروبية، ويتهم دعاة الأخذ بها بالغفلة والعمالة بل وبـ «الخيانة»، والبديل عنده، هو الأخذ بالاسلام كما كان عليه أول مرة. ومن وجهة نظر الجابري فإن المواقف السابقة ستهيمن على التيار السلفي وبالأخص جناحه الراديكالي الذي سيستعير منه معظم مواقفه المتأزمة. والنتيجة التي يخلص إليها الجابري في تقويمه للتوظيف الديني في السياسة الذي لجأ إليه الأفغاني ان هذا التوظيف لم يمكّن الأفغاني من امتلاك مشروع سياسي بديل (المشروع النهضوي العربي، ص 74).

في هذا الاتجاه يذهب السيد أيضا، فهو يرى ان «حركة الأخوان» المسلمين ظهرت في ظروف التأزم السياسي والثقافي للإصلاحية الإسلامية الناجمة عن اختلاف العلاقة مع النموذج/المصدر، ومع الدولة الوطنية. وبمقدار ما تظهر هذه الحركة على أنها امتداد للاصلاحية (الإحيائية) الإسلامية المأزومة إلا أنها عجزت ان تتحول الى بديل للمأزوم السائد في الثقافة العربية.

في كل الأحوال يظهر المأزم السائد على أنه امتداد لمأزم قديم، ولكن بصورة أشد، فالإصلاحية الإسلامية بقيت أكثر شمولية في نظرتها للآخر، للسيل الذي لا يرد، وللحداثة التي لا ترد كما يصفها جعيط في «أزمة الثقافة العربية». في حين ان الرادتكالية الإسلامية بقيت أسيرة ما سماها الجابري بالمعادلة المستحيلة الحل. فالنهضة لا تتحقق إلا بغياب الآخر (الجاهلي القريب، الجاهلي البعيد) والنتيجة مزيدا من الهروب الى الأمام بدلا من ان نهتدي الى سر تخلفنا الحضاري الذي يؤرق الجميع؟ للحديث صلة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً