العدد 143 - الأحد 26 يناير 2003م الموافق 23 ذي القعدة 1423هـ

قراءة غير سياسية للهجمات على القوات الأميركية في الكويت

حسن المصطفى comments [at] alwasatnews.com

تتابعُ الهجمات ضد الاميركيين الموجودين في الكويت مؤشر على تزايد حالٍ من الكراهية والبغض تجاه الاميركان. وهو في الوقت ذاته علامة دالة على وجود قوى فاعلة تابعة لـ «التيار الأصولي» لها قدرة على الفعل والإيجاع، وتخطي الاحترازات الأمنية التي اتخذتها الدولة منذ بداية هذه الحوادث.

ستُ هجمات تعرض لها جنود ومدنيون أميركيون. وفي كل مرة كان هنالك ضحايا، بين قتلى وجرحى، والعدد مرشح للتزايد، وخصوصا أن العداء الشعبي ضد ما هو أميركي في ازدياد، والأفكار الجهادية تلاقي تعاطفا من عامة الناس، بسبب ارتباطها بالديني من جهة، ورفعها لشعارات العداء لأميركا و«إسرائيل» من جهة ثانية، اضافة الى ما يتلقاه الناس من إعلام يومي ينقل الصورة المأسوية للفلسطينيين في وقت تتصاعد وتيرة الإعداد للحرب على العراق، الأمر الذي يرى فيه الناس استنزافا للاقتصاد الوطني، وإعادة ترتيب للخريطة الخليجية وفق مصالح القوى الكبرى.

هذا التصاعد لوتيرة السلوك الأصولي في الكويت لا يمكن أن يمر عليه من دون تحليل لأسبابه، ومحاولة الوقوف على جذوره المسببة له، وخصوصا أن مجتمعا كالكويت، يفترض أن تكون فيه وتيرة العداء للأميركان منخفضة، لأنهم أسدوا خدمة له بعد غزو العراق، إضافة الى كونه مجتمعا له تجربة دستورية، تعتبر الأعرق خليجيا.

عند دراسة هذه الظاهرة، من الضروري تفكيكها، وتفكيك روافدها المغذية لها. والأصولية باعتبارها ايديولوجية معاصرة بنيت على الفكر السلفي، المرتبط بمقولات الولاء والبراء. هذه المدرسة، على رغم أنها شكلت بنية عقدية قائمة على الإقصاء على مستوى الفكر، لكنها لم تكن قادرة على أن تشكل منهجا سياسيا محضا، كونها في مسارها التاريخي كانت وفق مسيرة «الفقيه والإمام». فالفقه والشريعة وأحكامها من اختصاص «الفقيه»، فيما السياسة والسلطة الدنيوية من اختصاص «الإمام/الحاكم»، من دون أن يكون الفقيه حاكما على الإمام، كما يشير الى ذلك تركي الحمد. والإمام كان يرجع الى الفقيه من أجل إضفاء الصبغة الشرعية على سلطته الدنيوية ولمباركة أحكامه وأفعاله.

هذه السلفية الكلاسيكية، تطورت، لما يمكن تسميته بـ «السلفية الجديدة»، بحسب الباحث عادل الطريفي، مستفيدة من المقولات السلفية عقديا، ومن حركة الإخوان المسلمين حركيا، التي كانت بداياتها مع «السرورية»، لكنها لم تقف عند هذا الحد، بل تعدته لتأصيل أعمق وأشد تطرفا لفكرها، واستخدامهم السياسي لمقولات الولاء والبراء، كما تجلت في خطابات أسامة بن لادن، عندما قسم العالم إلى فسطاطين. هذه السلفية الجديدة، تمثلت في عدة تنظيمات أصولية، لعل أبرزها «القاعدة»، و«الجهاد» المصري.

البنية الفكرية المنغلقة، وشديدة الرفض لكل ما هو دونها، والقائمة على منطق امتلاك «الحقيقة المطلقة»، وجدت ما يغذيها على المستوى العام والخاص. فالأصولية الإسرائيلية والأميركية، واستمرار المجازر في فلسطين، عززا من تنامي هذه الأصولية الإسلاموية، مع وجود بنية اجتماعية قابلة لتقبل هذه الأفكار وتشربها. وعلى مستوى الخاص الكويتي، فإن طبيعة الموقع الجغرافي للكويت، وكونها على مرمى النار من حرب الخليج «الثالثة» إن وقعت، وما يوجد بها من مخزون نفطي، جعل الشارع الكويتي يعتقد بخطورة النوايا الأميركية، كونها تهدف إلى حيازة المقدرات الاقتصادية للبلد، من دون الاكتراث لما من الممكن أن تجره حرب جديدة على الكويت من مصائب اقتصادية، وعسكرية، وبيئية، واجتماعية، وسياسية. ولو ذهبنا الى أعمق من ذلك، وتحديدا الى بنية المجتمع الكويتي السياسية والاجتماعية، سنجد استقطابا سياسيا حاكما، يسيطر على الحياة السياسية فيها، بين القوى الإسلامية والليبرالية، أفرز مواقف متطرفة من الفريقين.

الاستقطاب الحاد بين الليبراليين والدينيين، لم يجعل المناخ مواتيا لدراسة تركيبة المجتمع الكويتي وبنيته التحتية، التي تحمل في دواخلها بوادر تأزمها. فالمجتمع وعلى رغم مدنيته الشكلانية، تحكمه أعراف وتقاليد قبلية وعشائرية غاية في التشدد، فعقلية «القبيلة» هي محرك أساس، لم يستطع المجتمع على رغم مدنيته التخلص منها. هذه العقلية تتجلى بشكل فاقع في الموقف الذي اتخذه مجلس الأمة الكويتي في رفض مشاركة المرأة في الحياة السياسية ترشيحا وانتخابا، وهو الموقف الديني المبني على أساس قبلي. ولذلك لم يستطع أن يبني حداثة حقيقية، وسيطرت عليه ما يسميها أدونيس بـ «حداثة الآلة» لا «حداثة الإنسان»، وهي أخطر أنواع الحداثة، بسبب خوائها الداخلي، واعتمادها على المظاهر والمباهاة والجاه والعادات ولا شيء أكثر، وتضخم الأنا بفعل وفرة الإمكانات المادية.

الحداثة الشكلية التي تحكم المجتمع الكويتي، امتزجت مع عقلية «القبيلة»، وتحالفت مع «الأصولية»، لأن الأخيرة هي من سيضفي عليها الصبغة الشرعية، وهي بكلها تداخلت مع السياسة بتجاذباتها وتناقضاتها، فكان هذا الزواج المتين بين النضال الشكلاني والسياسة المضطربة.

هذا الزواج عززه وجود «رأس مال» قوي، وسيولة مادية، عززا من وثوقيته بذاته، وجعلا أهدافه التي يسعى الى تحقيقها سهلة المنال، لأن المال متوافر ومتاح. لذلك بات من الممكن جمع التبرعات والأموال، وطبع وتوزيع الكتب والمنشورات والكاسيتات، والقيام بالنشاطات الإسلاموية المختلفة. وكلها نشاطات مشروعة، من حق أي فرد أو جماعة ممارستها، لأنها تدخل ضمن حرية التعبير وحقوق الإنسان، اذا مورست بشكل طبيعي وغير متطرف. لكنها أخذت منحى آخر، جعلها بدلا من أن تكون رافدا توعويا، تحولت الى رافد يعزز من ثقافة التطرف، معيدا إليها مكانتها وحيويتها. ومن المهم هنا أن نلاحظ، أن هذا التيار الجهادي على رغم محدوديته تنظيميا، فإنه وبعد 11 سبتمبر، وبعد ضرب أفغانستان، والتجهيز لضرب العراق، واستمرار المجازر في فلسطين - كما أسلفنا - بات له الكثير من المريدين، وكسب شعبية كبيرة بين عموم الناس، وإن لم ينتموا إليه تنظيميا أو يمارسوا عملا فعليا على أرض الواقع. لكن هذا التعاطف سيكون بداية محتملة لاعادة بناء هذا التيار من جديد، وتعزيز حضوره الفعلي، لأنه ليس بإمكان أحد أن يضمن عدم تحول هذه المشاعر الى ممارسات عملية في المستقبل، ضمن مناخ دولي، يضغط نحو مزيد من التطرف.

ما يمكن أن يغذي عقلية التطرف هذه، هو وجود قابلية فكرية في التيار الاخواني ذاته، تتمثل هذه القابلية في التعامل البراغماتي المصلحي من جهة، والمجاملات السياسية والفكرية القائمة على حسابات خاصة ومدارات لأوضاع اجتماعية قائمة، ووجود بذور لبعض الأفكار الإقصائية في كتابات بعض منظري الإخوان أمثال سيد قطب، الذي قسم العالم إلى فسطاطين: الجاهلية والإسلام.

إن ما دأبت عليه الحكومة الكويتية والتيارات الدينية المعتدلة والناشطون السياسيون في الكويت من نفي لوجود خلايا نائمة لـ «القاعدة» أو متعاطفين معها ثبت عدم صحته منذ حادث جزيرة «فيلكا»، واستمرار التعامل مع الحوادث من وجهة نظر أمنية بحتة، يساندها خطاب رسمي وسياسي تقليدي لن يعالج المشكلة، وسيبقي بذورها كامنة، لأن العلاج لا يتحقق إلا بالرجوع الى الجذر الحقيقي ومعالجته بوعي وحكمة، وهو عمل شاق لا يتحقق بين عشية وضحاها

العدد 143 - الأحد 26 يناير 2003م الموافق 23 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً