العدد 143 - الأحد 26 يناير 2003م الموافق 23 ذي القعدة 1423هـ

حرية الصحافي بين الإلتزام... والإلزام

ياسر علوي comments [at] alwasatnews.com

.

هل الصحافي البحريني حر وملتزم بحريته أم أنه مقيد وملزَم؟

في وسع أي صحافي أن يتكلم عن العصافير الحرة في السماء أو أن يرثي لعبوديتها في أقفاصها ولكن من يتلكم عن العصافير، حتى لو أتى بذكر الحرية والعبودية، لا يكون قد أثبت أنه حر.

فما من قوة في العالم - مهما تمادت في استبدادها - ترى أذى أو ضررا لها في أن يتكلم الصحافي عن العصافير. بل لعل ما من قوة مستبدة في العالم إلا وترحب أن يتكلم الصحافي عن العصافير لهذا يبدو مضحكا موقف أولئك الذين يطالبون الصحافي - باسم الجأر بالحق - أن يتكلم عن العصافير. إذ ما معنى المطالبة والدفاع عن حق لا يماري فيه أحد ولا يلقي عنتا من أحد ولا حتى من المستبدين أعداء الحقوق في العالم؟

ولو وقع المستحيل ومنع الصحافي من الكلام عن العصافير، لكان ذلك بلا أدنى ريب اعتداء على حريته ولا مانع حتى من وصفه بأنه اعتداء صارخ، ولكن ليس هذا هو الشكل الأساسي ولا الرئيسي للاعتداء على حرية الصحافي، فأكثر الصحافيين أمنا واطمئنانا في عصرنا ومجتمعنا هم أولئك الذين لا يشرطون حريتهم بالتزامهم بها، ومن المستحيل أن تمارس قوة مستبدة اكراهها تجاه صحافي لا يريد أن يلتزم بالحرية، إنما الإكراه كله يلحق بالصحافي الذي يلتزم بالحرية ويريد أن يلتزم بها.

ان الشكل الأساس والرئيس للاعتداء على حرية الصحافي هو الاعتداء على التزامه، ولم يحدث قط أن جاع صحافي أو جوّع لأنه تكلم عما هو جميل - عن العصافير على سبيل المثال - في هذا الوجود ولكن كثيرا ما جاع الصحافيون أو جوّعوا لأنهم تكلموا عن الجوع مثلا أو عن كبت الحريات بما في ذلك كبت حرية العصافير في أقفاص رمزا للوضع البشري.

الحرية في عالمنا ليست معطى قبليا ولا هي تفضل من أحد، إنما هي حق من حقوق الإنسان ولد بها والصحافي لا يستطيع أن يبرهن لنفسه على أنه حر إلا إذا التزم وأشهر دليل حريته فالتزامه يخيف أعداء الحرية لا عدم التزامه وفي عالم ناقص الحرية كعالمنا لا يمكن أن نتصور حرية بلا ثمن. والصحافي الذي يلتزم هو ذلك الذي يعرف أنه قد يضطر إلى دفع الثمن وبالمقابل فإن عدم الالتزام بالحرية هو طريق الصحافي الذي لا يفكر إلا بقبض الثمن والحق أن التسهيلات والمغريات متوافرة وبكثرة: المال والمنصب والحرية الشخصية بالذات. وليس على الصحافي غير أن يعفي نفسه من الالتزام حتى يغرف من العطايا وعلى الأقل حتى يظل «حرا» بمعنى طليق السراح. ولكن أهو حر فعلا الصحافي الذي يمتنع عن قول ما يرى أن الضرورة تدعو إلى قوله خشية ألا يبقى طليق السراح؟

ألا يكون بذلك قد نجا بـ «حريته» الشخصية على حساب الحرية التي لا تكون الصحافة من دونها صحافة؟

أبسط مثال على أن حرية الصحافي هي في التزامه يتمثل في أن الصحافي الذي لا يلتزم بالحرية غير معرض في حال من الأحوال للاعتداء على حريته الشخصية. إذ أي معنى للاعتداء على حرية إنسان لا يسعى لأن يبرهن لنفسه على أنه حر؟ وبالمقابل فإن الاعتداء على الحرية يأخذ كامل معناه المنطقي متى استهدف إنسانا يريد أن يكون حرا وأن يشهر دليله على ذلك. وبئسا لعالم لا يستطيع فيه الإنسان أن يتمتع بشعور الحرية إلا إذا كان على استعداد للمجازفة بحريته الشخصية بالذات! ولكن ما يريده الصحافي الملتزم هو بالضبط تغيير هذا العالم!

إن الالتزام بالحرية لغو لا معنى له في عالم حر حرية مليئة مطلقة ولكنه دليل الحرية وبرهانها في عالم غير حر أو ناقص الحرية... والحديث عن التزام الصحافي بحريته لا ينتهي مع ذكر صحافيين سواء انتموا سرا أو جهارا إلى الصحافة من أجل التسلق والوصول. فالخطر على التزام الصحافي وبالتالي على حريته ليس خطرا نظريا على الأقل في جوهره ومهما تكن الضرورة ماسة إلى تعرية مدعين الصحافة الوصوليين وإلى تفنيد حجج خصوم الالتزام بالحرية فإن ما ينبغي ألا ننساه هو أن العدو الحقيقي لحرية الصحافي والتزامه انما هو عدو مادي من لحم ودم ومن أنياب مسنونة وهراوات! وأخطر منزلق يمكن أن تنزلق إليه هو أن نغفل عن هذا العدو المادي الحقيقي لنركز على جهودنا على ما لا يعدو أن يكون في أسوأ الفروض تعبيره النظري.

الطرح النظري لمسألة الالتزام، على ضرورته ليس بكافٍ ولا هو الأساس في مجتمعنا فالحرية مسألة عملية، وكذلك الاعتداء الواقع عليها وما دمنا قد قررنا أن الشكل الرئيس للاعتداء على حرية الصحافي هو الاعتداء على التزامه، فإننا مدعوون إلى تحديد طبيعة الأخطار التي تهدد الصحافي في التزامه ومصدر هذه الأخطار وتحديد التدابير إلى درء هذه الأخطار وشل قواها المحركة... وجميعنا يعلم أن الاعتداء على حرية الصحافي يكون بأحد أمرين: إما أن يمنع من قول ما يريد أن يقوله، وإما أن يفرض عليه ما لا يريد أن يقوله.

وبالطبع لا أساوي بين هذين الأمرين الخطرين ففي بعض الأحيان يكون الخطر الأول هو خطر الكبت: منع الصحافي من قول ما يريد قوله وفي أحيان أخرى يكون الخطر المباشر هو خطر الالزام. إرغام الصحافي على قول ما لا يريد قوله. بالخطر الأول يبرز أكثر ما يبرز في المجتمعات التي تقبض على زمام السلطة فيها أقلية أنانية ضيقة الأفق تعيش على سلب فائض عمل الأكثرية. أما الخطر الثاني فيبرز في المجتمعات التي تنظم أمورها أيديولوجيا لا ترى من حرج حتى في التدخل لتوجيه مصير الصحافة وهذان هما الشكلان للاعتداء على حرية الصحافي لكننا لا نساوي بينهما لعدة أسباب أولها أن المساواة بينهما قد تقودنا إلى معارضة كل منهما بالآخر وإلى تبرير كل منهما عن طريق إدانة الآخر. وثانيا اننا لا نجهل أن منطق الخطر الأول هو منطق العنف العاري الذي لا يحاول حتى تبرير نفسه، في حين أن الخطر الذي من النوع الثاني يحيلنا في محاولة منه لتبرير نفسه إلى سلم محدد من القيم والتقدم والمساواة والمجتمع الجديد وضرورة حمايته من محاولات التخريب ومن الفوضوية الليبرالية والحال أننا لا نستطيع الاعتراض على هذه الغايات حتى لو اعترضنا على وسائلها وتفسيراتها. إن الصحافي الملتزم لا يواجه - إلا فيما ندر - خطر إرغامه على قول ما لا يريد قوله وهذا لسبب بسيط، وهو أن المجتمع العربي بمختلف أجزائه لا يعرف ذلك الشكل الشامل المتلاحم من التسيير الايديولوجي الذي تتميز به بعض المجتمعات الأخرى. وهذا لا يعني أن المجتمع العربي بمختلف أجزائه لا يعرف ذلك الشكل الشامل المتلاحم من التسيير الإيديولوجي الذي تتميز به المجتمعات وإنما يعني فقط أن تلك الايديولوجيا التي تزعم لنفسها الحق في أن تكون نظاما للحياة والتفكير لم تصبح بعد حقيقة واقعة في أي قطر عربي. وليس في الأفق ما يشير إلى أن هذه المسألة مطروحة على جدول أعمال التاريخ العربي في مستقبل قريب، ولا حتى بعيد. ولهذا بالتحديد تبدو لنا مشبوهة، محاولة ذلك النفر من محترفي الكلمة، الذين يهولون من خطر الإلزام والتدخل الايديولوجي الذي قد يكون واقعيا في بعض المجتمعات، ولكنه وهمي ومصطنع إلى حد كبير في مجتمعنا العربي.

الكبت هو الشكل الرئيس للاعتداء على حرية الصحافي وإلزامه، ودرجة الكبت الذي يعاني منه الصحافي إن تحدثنا بشكل عام يختلف وتتفاوت شدته وأشكاله في مجتمعاتنا العربية وتتمايز تبعا للأقطار وللأنظمة الاجتماعية - الاقتصادية - السياسية السائدة فيها. من هنا فإن أي محاولة للإطاحة بهذا الخطر ولتحديد طبيعته ولتقرير وسائل تلافيه وإبطال مفعوله لتجد نفسها ملزمة أولا بتحديد طبيعة القوى التي يمكن أن يصدر عنها.

وهذه القوى على ما نراه ثلاثا من حيث الجوهر والأساس وهي السلطة السياسية وقوى التخلف والرجعية الاجتماعية والمال.

أما السلطة السياسية فلا نعتقد أننا بحاجة إلى تحليل معمق لنلاحظ أن الوطن العربي يكاد يعرف من السلطة السياسية جميع أشكالها، بدءا من السلطة الأوتوقراطية، التي كان ينبغي أن تحتل مكانها في المتحف إلى جانب مخلفات العصور الوسطى، إلى السلطة السياسية التي تسمي نفسها متقدمة، ولا يكاد هناك مراء في أن الكبت الذي تعاني منه حرية الصحافي يتناسب عكسا وتقدم السلطة السياسية.

حرية الصحافي قد تعاني من الكبت - وتعاني فعلا بهذا القدر أو ذاك - في ظل السلطة السياسية المتقدمة. ولكن هذا الكبت، حتى لو اتخذ أحيانا أشكالا حادة وعنيفة لا ينبغي أن يوقع في خلد الصحافي أن تناقضه مع هذه السلطة تناقض عدائي أو مركزي. فالتناقض بين حرية الصحافي وبين السلطة السياسية لا يمكن ولا ينبغي إلا أن تكون تناقضات ثانوية وغير عدائية لا يسع لأحد أن ينكر وجودها.

إن لجوء الصحافي إلى لغة الرمز بشكل متعاظم يشير قطعا إلى أنه بات يجد بعض الحرج وربما الخوف، في أن يقول ما يريد قوله بلغة يفهمها الجميع بصورة مباشرة.

وما من أحد يطالب الصحافي بأن يكون شهيدا ولكن ليس من مصلحة أحد أن يلزم الصمت وإذا لم يكن من خيار إلا بين الشهادة والصمت فإننا نفهم تماما أن الصحافي عندما يؤثر ألا يقول أكثر من نصف الحقيقة، وأحيانا ربعها والرمز لغة من يعجز أو من يرغب عن قول الحقيقة كاملة.

الأزمة بعد هذا ليست مستعصية الحل فأقصى حد ممكن من الوعي من جانب الصحافي الملتزم لطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها البلاد ولطبيعة قواها المحركة ولطبيعة تناقضاتها الأساسية والثانوية، وأقصى حد ممكن من رحابة الصدر وسعة الأفق من جانب السلطة السياسية المتقدمة إزاء النقد، هما شرطان لا غنى عنهما لعلاقات صحيحة وصحية بين الصحافي والسلطة.

هناك رأي شائع أن السلطة السياسية هي مصدر الخطر الوحيد على حرية الصحافي، وقد يكون هذا صحيحا في مجتمعات بعينها، أما في مجتمعنا الخليجي الذي لم يعرف بعد ثورة ديمقراطية جذرية، فإن قوى التخلف والرجعية الاجتماعية تشكل خطرا واقعيا على حرية الصحافي وتمارس في بعض الحالات إرهابا حقيقيا، ونحن إذا لم نفهم هذه الحقيقة الواقعة ما استطعنا أن نفهم لماذا بعض الموضوعات، كالدين وإلى حد ما الجنس، موضوعات شبه محرمة على الصحافي أن يتصدى لها بأسلوب علماني وعملي، والمشكلة بلا أدنى ريب بالغة التعقيد، وحلها على المدى البعيد مرتبط بتطور نفسية الجماهير وبتجذير الثورة الديمقراطية، أما على المدى القريب فإن إثارة المشكلة، ولو من دون حلول مقترحة، قد يكون خطوة إلى الأمام على طريق الحل الذي لايزال بعيدا.

«المال» خطر داهم على الصحافيين... وحركة تحطيم الأصنام التي مثلت في تاريخ البشرية قفزة ديمقراطية هائلة إلى الأمام قد وقفت عاجزة عن تحطيم وثن الأوثان، المال الذي لم تنتهِ عبادته في ازدهار مادام كل شيء في حضارة عالمنا قابلا للقياس نقدا أو ذهبا والمال يتهدد الصحافي من الداخل لا من الخارج وبالترغيب لا بالترهيب والصحافي بخلاف الصور المثالية الكاذبة الشائعة عنه ليس إنسانا أعلى، فالمال إغراء عظيم له كما لسائر البشر، ولنصارح أنفسنا على الأقل بهذه الحقيقة، وإلا فلن نكون إلا متعامين عن خطر واقعي قضى على الكثرة الكثيرة من صحافيينا بأن يكونوا محض كلاب حراسة غير ذلك أصبح التكسب من الصحافة حرفة لها مكانتها وطقوسها بين سائر الحرف الأخرى وأبواب الاغراء مفتوحة بشكل كبير للصحافي كي لا يمارس حريته وبالتالي إلزامه بالإنتاج ويكتب ما يدر ويكسب لا ما تمليه عليه مسئوليته وحرية ضميره باعتباره صحافيا ملتزما. والحل لا يمكن أن يكون أخلاقيا صرفا وبعبارة أخرى إننا لا نستطيع أن نكتفي بمطالبة الصحافي بسد أذنيه من دون إغراء المال، فهذا واجبه، ولكن الواجب من وجهة النظر النقابية يتعدى ذلك... يتعداه على وجه التحديد إلى محاولة خلق حد أدنى من الشروط الموضوعية التي تتيح للصحافي في تعزيز مقاومته الأخلاقية.

على البشر كما هو معروف أن ينتجوا تصورات حياتهم، وهذه الحقيقة تنطبق فيما تنطبق على الصحافي، وإذا كان أحد الأهداف الأساسية لكل تنظيم نقابي هو ضمان أمن الحياة المادية لكل عضو فيه، أفلم يأن الأوان أن يكون للصحافيين تنظيمهم النقابي الذي يكفل لهم شكلا جماعيا من أشكال الحماية والتكافل؟

إن الصحافي الملتزم هو ذاك الذي يعلم أنه ينتمي إلى جماعة لا إلى قوقعته الذاتية فحسب، فلماذا لا نعزز لديه شعور الانتماء إلى الجماعة هذا عن طريق توفير نوع من الأمن الجماعي له.

بعبارة أخرى إن الصحافي الملتزم، المطالب بتجاوز النزعة الفردية الضيقة لا يجوز أن يظل مجرد فرد أمام القوى التي تهدده في حريته والتزامه. والتي هي بطبيعتها وبالضرورة اجتماعية جماعية.

إن تنظيما نقابيا شاملا للصحافيين هو اليوم ضرورة ماسة لتوفير حد أدنى من الحماية للصحافي الفرد إزاء ضغط شتى القوى الاجتماعية التي قد تتهدد حريته وإلتزامه... ولإقامة علاقات صحيحة وصحية بينه وبين المجتمع... ومثل هذا التنظيم ضروري على الأقل كي لا تبقى الحياة الصحافية محكومة بالمصادفات ونزواتها

العدد 143 - الأحد 26 يناير 2003م الموافق 23 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً