إذا كان الاستراتيجيون والمحللون السياسيون والاقتصاديون في الغرب يجمعون على أن الغموض والتخوف السائدين اليوم حيال تفجر الحرب في العراق سيساهمان بالضغط على الأسواق المالية والنفط، ما سينعكس سلبا على اقتصاداته، فإن الخبراء المختصين بدول المغرب العربي من ناحيتهم، بدأوا يعدون حساباتهم بدقة لنتائجها السياسية والاقتصادية المرتقبة. فخلافا لحرب الخليج الثانية، يرى هؤلاء أن انعكاسات الهجوم الأميركي - البريطاني المحتمل على العراق، لن تكون هي نفسها بالنسبة لكل بلد من بلدانه، نظرا لتبدل المعطيات من جهة، ومن جهة أخرى بسبب التحولات الذاتية والموضوعية التي طرأت على السياسات المعتمدة والبينات في السنوات العشر الأخيرة.
يعتبر غالبية المحللين أن المغرب سيكون الأكثر تأثرا على ما يبدو بهذا الحدث، ذلك على رغم البعد الجغرافي، والضعف النسبي لحجم المبادلات التجارية - بالمقارنة مع الجارة تونس على سبيل المثال لا الحصر - القائمة مع العراق في إطار برنامج «النفط مقابل الغذاء». ويعود ذلك من الناحية السياسية لوجود أحزاب سياسية نشطة ملتزمة تاريخيا بالقضايا الوطنية والقومية، ناهيك عن التعاطف الخاص مع العراق وشعبه. كما ولعب الانفتاح السياسي مع مجيء المعارضة الى الحكم في السنوات الماضية دورا في تعزيز فعالية الأحزاب والتيارات، بما فيها الدينية، ما سيجعلها حكما تتفاعل بقوة مع الهجمة المتوقعة على العراق. فالحيز من الحرية الموجود، خلافا لدول الجوار، لابد وان يحدث إرباكا للنظام من غير ان يهدد استقراره. فالتعبير عن التعاطف مع العراق شيء عادي في المغرب، كما هو الحال بالنسبة لفلسطين اذ يتجاوز عدد المتظاهرين في بعض الحالات المليون ونصف المليون شخص، من دون ان تترك حركتهم الضخمة أضرارا أو تجاوزات تذكر في هذا السياق، ينبغي التذكير بما حدث خلال حرب الخليج الثانية على رغم غزو القوات العراقية للكويت واحتلالها، والمساهمة الرمزية للجيش المغربي في الحملة العسكرية الدولية يومها. وتفسر الأوساط السياسية المغربية المطلعة هذا الموقف الشعبي المساند للنظام العراقي ومواكبة السلطات له وإبداء «تفهمه» وعدم اعتراضه، كون بغداد - صدام حسين - وقفت بصلابة في الماضي إلى جانب المملكة المغربية في أحلك الظروف، وخصوصا في حربها من أجل استرداد أجزاء من الصحراء الغربية، ودفعت الثمن من حياة جنودها. كما لا ينسى المغاربة مساعدة العراق لدولتهم لناحية خفض قيمة الفاتورة النفطية المترتبة عليها حياله في أصعب المراحل التي مر بها اقتصاد المملكة، أي عند تطبيق البرنامج القاسي الذي فرضه في منتصف الثمانينات صندوق النقد الدولي على الرباط والتعاطي يومها بتصحيح هيكلة اقتصادها.
وإذا كانت بعض الدوائر الغربية الصديقة للحكم في المغرب تتخوف من حدوث اضطرابات يتداخل معها وضع اجتماعي صعب، يمكن ان تستغله بعض القوى المتطرفة من «سلفية جهادية» وغيرها، إلا ان مصادر مسئولة في الحكم أكدت أن السلطات المعنية استبقت منذ فترة الأمور بوضع عدة خطط وآليات مناسبة لاحتواء أية تجاوزات خطيرة يمكن ان تهدد الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي في البلد. وما الاعتقالات - على قدم وساق - منذ أشهر في صفوف الأصوليين والتناغم الحاصل مع القوى الإسلامية المتمثلة في البرلمان وخارجه، كذلك تسريع وتيرة المشروعات الاجتماعية والسماح بالتظاهرة للتعبير عن الرفض للحرب ضد العراق، آخرها التظاهر، - التجربة - التي جرت الاسبوع الماضي في الرباط، والتجمع أمام السفارة القطرية تنديدا بالتسهيلات التي تقدمها الدوحة للقوات الاميركية على ارضها، سوى دليل على نية الحكم بعدم السير عكس التيار. هذا على رغم العلاقة المميزة التي تربط واشنطن بالرباط في المجالات كافة، كذلك التنسيق الدائم سيما في مكافحة الارهاب، والمناورات التي تجري في هذه الفترة من دون ضجيج اعلامي بين قوات البلدين في جنوب المملكة تحديدا في المناطق الصحراوية. وبناء على هذه المعطيات، ذكرت مصادر مقربة من القصر الملكي أن العاهل المغربي قرر التشاور مع القوى السياسية الرئيسية في البلاد، بما فيها التيارات الاسلامية باتجاهاتها كافة - من ضمنها ايضا «جمعية العدل والاحسان» التي يرأسها الشيخ عبد السلام ياسين - ولو بصورة غير مباشرة - في الخطوات الواجب اتخاذها في حال قيام حرب ضد العراق، وكيفية التعبير من دون تهديد أمن واستقرار الوطن.
فاذا كانت الانعكاسات السياسية وبحسب هذا التشخيص وهذه المعلومات تدل على إمكان استيعاب الصدمة والتقليل من أذاها، فإن التبعات الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية، سيكون لها وقع اشد قساوة، خصوصا وان مؤشرات الاقتصاد الجمعي لم تخرج بغالبيتها من الدوائر الحمر منذ اكثر من سنتين بفعل الكثير من العوامل، ابرزها الجفاف الذي ضرب البلاد لعدة أعوام متتالية!
كذلك تراجع الاستمثارات الخارجية المباشرة التي كانت تعول عليها حكومة التناوب برئاسة عبدالرحمن اليوسفي الكثير لتصحيح الاختلالات في الموازين الجارية والتدني المستمر لمؤشر بورصة الدار البيضاء، نآهيك عن التأثيرات التي خلفتها حوادث 11 سبتمبر/ايلول على السياحة والخدمات التي يخشى المسئولون المغاربة منها بصورة خاصة مثل هبوط اسعار النفط وعدم قدرة صندوق المقاصة على تغطية الفارق؟ ما سيؤدي حتما لتحميله للقطاعات والشرائح الاجتماعية كافة التي تعاني جميعها منذ فترة من نتائج تباطؤ الاقتصاد في دول الاتحاد الأوروبي الشريك الرئيسي للمغرب. فمن المعلوم ان أقل بقليل من الموازنة العامة يذهب لتغطية الفاتورة النفطية. ما سيزيد في العجز المتوقع الذي أعلنت عنه حكومة ادريس جطو، ويؤخر عمليا، إذا لم يجمد الكثير من المشروعات الاجتماعية والتنموية، المنوي تحقيقها خلال السنة الحالية وحتى العام 2006. لكن من ناحية أخرى، تعلق الحكومة آمالا كبيرة على التعويض الذي يمكن ان تقدمه الولايات المتحدة لاقتصاد المغرب سواء عبر الإسراع بإنجاز منطقة التبادل التجاري الحر الجاري الإعداد لها بين البلدين أو عبر توجيه القطاع الخاص الأميركي للاستثمار، كذلك الموافقة على تقديم مساعدات مادية استثنائية على غرار ما يتم التعامل به مع كل من إسرائيل ومصر.
في إطار هذه الانعكاسات المغاربية يجزم المراقبون بأن هذه الأخيرة ستكون مختلفة بالنسبة لتونس، وخصوصا من الناحية السياسية ولجانب الخطط المعتمدة للتقليل من السلبيات. فتونس التي دفعت في حرب الخليج الثانية ثمنا اقتصاديا باهظا نتيجة حيادها المراعي لشعور أبنائها، وعلى رغم ان أبرز المستثمرين فيها هم الكويتيون، حكومة وشركات، إلا انها ستسعى هذه المرة لتهدئة اللعبة ما أمكن. إضافة إلى أن طبيعة المشكلة تختلف اليوم عن 1990. لكن مع المحافظة على الدوام بمنع حدوث أي انفصام مع مجتمعها الرافض بطبيعته وبأكثرية أية ضربة توجه الى العراق الشقيق. لكن غير الواضح حتى الآن هو ما إذا كانت السلطات ستسمح بحيز أوسع للأحزاب السياسية اليسارية منها الغير مرخص لها بالعزف منفردة على وتر المشاعر الشعبية، وبالتالي، حصر التحركات والتظاهرات بالتجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم والأحزاب المعارضة المرخصة كما هو الحال على الدوام منذ سنوات. ويعزز هذه التوقعات، إصرار السلطات على حماية الاستقرار الداخلي وعدم السماح بتهديده أيا كانت المبررات، وخصوصا بعد حادثة «جربة» في العام الماضي، واستعداد القوى المتطرفة لاستغلال الظروف لتنفيذ مخططاتها.
أما على الصعيد الاقتصادي، فيبدو بحسب المحللين الماليين في المصارف الأوروبية الخاصة المتعاملة مع هذا البلد، ان الاجراءات الاستباقية التي اتخذتها الحكومة التونسية، سواء لناحية خفض الانفاق الحكومي في الموازنة الجديدة والابقاء على العجز عند مستوى يقدر بنحو 2,6 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، أو لناحية خفض التوقعات لنموه إلى 1,9 في المئة في أسوأ الاحتمالات، من دون المساس بالمشروعات التنموية الرئيسية المخطط لها. دليل على مقدرة تونس على التخفيف من وطأة الصدمة عليها. ويرى هؤلاء أن الإجراءات الإضافية المتخذة مثل التركيز على تعويض التدني المتوقع في عائدات السياحة بنسبة 13 في المئة عبر تنشيط السياحة الداخلية، وجذب السياح من دول الجوار، ليبيا والجزائر، كما حصل في العام الماضي، من شأنه تلطيف الانعكاسات السلبية. وترى الحكومة أن مضاعفة الصادرات الخارجية التي تعد النقد النادر يمكن أن تغطي جزئيا امكان توقف المبادلات التجارية مع العراق، التي وصلت بنهاية العام الماضي إلى ما يقارب البليون دولار وتراهن تونس وأوساطها الاقتصادية والمالية التابعة للقطاع الخاص على النمو المتزايد للعلاقات مع كل من الجزائر وليبيا. ويمكن تفسير هذا الرهان بتحريك اللجان العليا المشتركة مع هذين البلدين في الأسابيع الأخيرة الماضية والتي شارك بها كل من رئيس وزراء الجزائر علي بن فليس، ووزير خارجية ليبيا عبدالرحمن شلقم، بموازاة ذلك، تحركت تونس باتجاه اسبانيا التي أبدت أخيرا اهتماما بالاستثمار، سيما في مجالي الصيد البحري والاكتشافات النفطية. وعلم بأنه خلال الزيارة التي قام بها الأسبوع الماضي لمدريد الوزير الأول محمد الغنوشي، حصل هذا الأخير على وعود من نظيره الاسباني اتنار بانجاز بعض الملفات المتعقلة بهذه الاستثمارات، كذلك، تقديم بعض المساعدات والقروض بشروط ميسرة للاستمرار بالكثير من المشروعات التنموية الجارية.
في ما يتعلق بالجزائر، فإن الإشكالية المطروحة والتصور للانعكاسات يختلف بصورة شبه كلية عما هو مرتقب في كل من المغرب وتونس، فعلى المستوى السياسي، لا يبدو أن المجتمع الجزائري، الغارق في همومه الاجتماعية والأمنية، متحمس «للتضامن» مع العراق وشعبه. ما يذكر بالموقف لدى حصار واجتياح بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي في صيف 1982 اذ علق حينها أحد المفكرين الجزائريين قائلا بألم شديد «إن بطولة العالم لكرة القدم تبدو بنظر مجتمعنا مع الأسف، أكثر أهمية من أرواح أشقائنا اللبنانيين والفلسطينيين» هذا الواقع يحسب على الأحزاب السياسية نفسها، موالية ومعارضة، والتي فقدت، حب أحد المحللين السياسيين المحليين، وجهة بوصلتها منذ زمن بعيد، بحيث باتت عديمة الحضور والفعالية، فاقدة لثقة الشعب بها وبرجالاتها. أما الحكم فقد دخل منذ فترة في سباق رئاسة الجمهورية المحدد في العام 2004م ما يجعله غير قادر أو رافض لتعبئة المجتمع لمساندة العراق. فالمهم هو عدم إعطاء الفرصة للإرهابيين باستغلال المناسبة أو تداخل التظاهرات مع تلك التي تقوم بها منطقة القبائل، الأمر الذي يعقد الأمور أكثر فأكثر. فالذي يهم الحكم، برأي المراقبين اليوم، هو تصحيح صورته في الخارج بأية ثمن، والتقارب أكثر مع الولايات المتحدة الأميركية - الوحيدة بحسب رأي منظريه - القادرة على إعطائه صك البراءة وحسن السلوك.
فعلى الصعيد الإقتصادي، فإن الجزائر على عكس تونس والمغرب، لن تتأثر مطلقا بالحرب ضد العراق. فارتفاع أسعار النفط المتوقع من شأنه أن يزيد في مداخيلها. كون 80 في المئة من ناتج دخلها القومي مرتبط بقطاع الهيدروكربورات. فعائدات شركة «سوناطراك» وحدها، على سبيل المثال، بلغت 18 بليون دولار في العام الماضي، في حين تجاوزت الاحتياطات من العملات الأجنبية ما عدا الذهب، الى ما يقارب الـ 22 بليون دولار. فأية زيادة في الإيرادات ستخفض الدين العام وتقلل من خدمة الدين الخارجي، ما يقلص فجوة العجز في الموازنة. ففي الأحوال كلها، يجمع غالبية الخبراء، على أن انعكاسات الحرب على العراق ستكون إيجابية بمجملها بالنسبة للجزائر، خصوصا وأن اقتصاد هذا البلد لا يقوم على السياحة ولا على الصادرات الغير نفطية، كما أن الاستثمارات الخارجية لن تتأثر بدورها، كونها تتركز كلها على قطاع النفط والغاز.
هذا ما أكدته المناقشات التي جرت في «أسبوع الطاقة في الجزائر» الذي نظم في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي. وستسهم الزيادة المرتقبة في العائدات بتنفيذ لسلسة المشروعات التي أعطي فيها القطاع الخاص الجزائري نسبة لا يستهان بها. أما فيما يختص ببرنامج التخصيص المؤهل بصورة مستمرة، فمن الواضح بأن الحكومة لا تعلق عليه أهمية قصوى في الوقت الحاضر ما يعني أن الاقتصاد لن يتأثر به لا من قريب ولا من بعيد
العدد 143 - الأحد 26 يناير 2003م الموافق 23 ذي القعدة 1423هـ