العدد 143 - الأحد 26 يناير 2003م الموافق 23 ذي القعدة 1423هـ

أنشودة المطر

شعر - بدر شاكر السياب 

تحديث: 12 مايو 2017

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،

أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر،

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وَهْنَا ساعة السَّحَر

كأنما تنبض في غوريهما، النُّجومْ...

وتغرقان في ضبابٍ من أسى شفيفْ

كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء،

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف،

والموت، والميلاد، والظلام، والضياء،

فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء

ونشوةٌ وحشيةٌ تعانق السماء

كنشوة الطفل إذا خاف من القمر!

كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرة فقطرة تذوب في المطر...

وكركر الاطفالُ في عرائس الكروم،

ودغدغت صمت العاصفير على الشجر

أنشودةُ المطر...

مطر...

مطر...

مطر...

تثاءب المساء، والغيومُ ماتزالْ

تسحُّ ما تسح من دموعها الثقالْ

كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام:

بأنَّ أمّه - التي أفاق منذ عامْ

فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال

قالوا له: «بعد غدٍ تعودْ...» -

لابدَّ أن تعودْ

وإن تهامس الرفاق أنَّها هناكْ

في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ

تسفّ من ترابها وتشرب المطر،

كأن صيادا حزينا يجمع الشباك

ويلعن المياه والقَدَر

وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ.

مطر...

مطر...

أتعلمين أيَّ حزن يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟

بلا انتهاء - كالدَّم المراق، كالجياع،

كالحبّ، كالأطفال، كالموتى - هو المطر!

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار،

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ

أصيح بالخليج: «يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ، والمحّار، والرّدى!»

فيرجع الصدّى

كأنٌه النشيجْ:

«يا خليج

يا واهب المحار والردى...»

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ،

حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر

وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع،

عواصف الخليج، والرعود، منشدين:

«مطر...

مطر...

مطر...

وفي العراق جوعْ

وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ

لتشبع الغربان والجراد

وتطحن الشّوان والحجر

رحى تدور في الحقول... حولها بشرْ

مطر...

مطر...

مطر...

وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ

ثم اعتللنا - خوف أن نلامَ - بالمطر...

مطر...

مطر...

ومنذ أنْ كنَّا صغارا، كانت السماء

تغيمُ في الشتاء

ويهطل المطر،

وكل عام - حين يعشب الثرى - نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ.

مطر...

مطر...

مطر...

في كل قطرة من المطر

حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهرْ

وكُلّ دمعةٍ من الجياع والعراة

وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ

فهى ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد

أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة!

مطر...

مطر...

مطر...

سيُعشبُ العراق بالمطر...

أصيح بالخليج: «يا خليج...

يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!»

فيرجع الصدى

كأنه النشيج:

« يا خليج

يا واهب المحار والردى»

وينثر الخليج من هِباته الكثارْ،

على الرمال، رغوه الأجاجَ، والمحار

وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق

من المهاجرين ظلّ يشرب الردى

من لجَّة الخليج والقرار،

وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ

من زهرة يربّها الفرات بالنَّدى

وأسمع في الخليج

«مطر

مطر...

في كلّ قطرة من المطرْ

حمراء أو صفراء من أجنّةِ الزَّهرْ

وكلّ دمعة من الجياع والعراة

وكلٌ قطرة تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد

أو حلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتي، واهب الحياة».

ويهطل المطرْ..





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً