توقعت مصادر قيادة أركان الجيش الروسي أن تبدأ الحرب الأميركية على العراق في منتصف فبراير/ شباط المقبل. لم تذكر القيادة مصادر معلوماتها إلا أنها لا شك تقوم على محصلة مراجع استخباراتية وقراءة مركبة لمجموعة معلومات سياسية. فروسيا على رغم ضعفها الاقتصادي وتشتت اهتماماتها الداخلية والحدودية لاتزال من أكثر الدول الكبرى معنية مباشرة بالوضع العربي نظرا إلى قربها الجغرافي وحساسية موقعها الجيو-سياسي على شريط من الدول المسلمة الواقعة على حدودها الجنوبية الممتدة من غرب الصين إلى شرق أوروبا.
روسيا معنية أيضا بالموضوع العراقي. فالعراق من الدول العربية القليلة التي وقعت اتفاقات اقتصادية وأمنية وعسكرية ولوجستية ونفطية مع موسكو في العهد السوفياتي واستمرت فعالية تلك الاتفاقات حتى بعد حرب الخليج الثانية (1991) وتفكك الاتحاد السوفياتي. والعراق من الدول التي شهدت علاقاتها مع السوفيات تطورات متميزة حين كانت بغداد في حال قتال مع إيران خلال فترة حرب الخليج الأولى. فروسيا السوفياتية آنذاك انتقمت من طهران بسبب دعمها للجهاد الأفغاني بتعزيز ترسانة العراق بالسلاح التقليدي البري والجوي وقدمت كل المعونات العسكرية الممكنة لمنع العراق من السقوط.
موسكو لعبت إلى جوار ثلاث دول كبرى سلسلة أدوار مركزية أسهمت في تطوير آلة الحرب العراقية. فهي قدمت الطائرات العسكرية والصواريخ البرية والدبابات والمدافع والذخيرة على أنواعها، وفرنسا قدمت التكنولوجيا العسكرية من صواريخ اكزوسيت التي تحملها الطائرات لقصف الأهداف الجوية والبرية والبحرية، وألمانيا قدمت المواد الكيماوية ومختلف عناصر الدعم اللوجستي من حاجات مدنية وعسكرية، والولايات المتحدة قدمت المعلومات (أخبار الرصد) التي كانت تجمعها الأقمار الاصطناعية عن تحركات القوات الإيرانية على الحدود الدولية. ومجموع الدول الأربع قدمت القروض المصرفية إلى درجة كانت الأرصدة مفتوحة في معظم المصارف الأوروبية يأخذ منها العراق ما يشاء وينفق على حاجاته ومعداته من دون حساب... ووصلت مجموع قروض العراق إلى عشرات المليارات من الدولارات مضمونة من قبل فرنسا وألمانيا وأميركا إضافة إلى عشرات أخرى هي محصلة قروض العراق للاتحاد السوفياتي.
لا شك في أن موسكو هي أكثر الدول تضررا بعد انتهاء حرب الخليج الثانية وبعدها تأتي باريس نظرا إلى عجز العراق عن تسديد ديونه وعدم قدرة فرنسا على تحصيل قروضها التي تورطت فيها عشرات الشركات المدنية والعسكرية. وحتى الآن لاتزال المشكلة عالقة، فالعراق ينتظر الفرج للإفراج عن القروض وتسديد ما عليه، وموسكو باتت في أمسِّ الحاجة إلى استرداد أموالها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. حاول العراق بعد ضربة 1991 تحسين علاقاته مع روسيا الجمهورية من خلال إعادة تدوير ديونه وتحويل القروض المالية (العسكرية) إلى عقود تجارية ونفطية فأعطى الشركات الروسية أفضلية تجارية سواء على مستوى السلع والبضائع أو على مستوى التنقيب عن النفط واستخراجه. وفعل العراق الأمر نفسه مع فرنسا وألمانيا لتعويضها بعض خسائرها المتراكمة عن فوائد الديون وضمانات القروض. مع ذلك تبقى روسيا الأكثر تضررا من ضربة 1991 والأكثر حاجة إلى العراق والأكثر قربا منه ومن تداعيات الحرب المحتملة نظرا إلى انعكاساتها السلبية على دول الجوار وإمكان امتدادها إلى تلك السلسلة من الدول المسلمة الممتدة على طول الحدود الروسية الجنوبية. روسيا معنية بالعراق وهي صاحبة مصلحة في استقراره وفك الحصار عنه لتعويض خسائرها السابقة وكسب سوقه الغنية بالنفط والطبقة المتوسطة الطموحة.
مع ذلك تبقى روسيا الأكثر غموضا في موقفها من العراق، وهي أقل كلاما من دول كبرى أخرى مثل فرنسا وألمانيا والصين. فموسكو حتى الآن لم تفصح عن رأيها وكل ما قالته يعتبر مجرد تكرار للمواقف الفرنسية والألمانية. وأحيانا تكون مواقف باريس وبرلين أكثر وضوحا وجرأة من مواقف موسكو.
هذا الصمت المريب الذي كسره كلام قيادة الأركان باحتمال أن تبدأ الحرب في منتصف فبراير يدل على أكثر من اتجاه: الأول أن موسكو باعت عقودها التجارية والنفطية لشركات أميركية مقابل ضمانات قروض ومساعدات وتسهيلات من قبل إدارة الولايات المتحدة. والثاني أن موسكو تنتظر لحظة تورط أميركا في حربها على العراق للتحرك على أكثر من جبهة سياسية وعسكرية لضمان حدودها الجنوبية التي أحاطتها واشنطن بشبكة من القواعد والاتفاقات العسكرية مع الدول المسلمة والمنفصلة حديثا عن الاتحاد السوفياتي.
صمت موسكو مخيف، فروسيا التي تعتبر ضعيفة اقتصاديا لاتزال تصنف الدولة الأولى عسكريا بعد الولايات المتحدة وتمتد جغرافيا إلى مسافة أميال قليلة عن ولاية الاسكا في أقصى الشرق الروسي. روسيا مخيفة عسكريا وصمتها المريب يزيد من ارتباك الموقف الأميركي. فمن دون موافقة موسكو على الحرب يصعب على واشنطن خوض معاركها على مقربة من حدودها الجنوبية. فالأخيرة قادرة على إرباك الأولى وتعطيل تحركاتها الجوية وتشويش اتصالاتها التقنية (العسكرية) واللوجستية. فهل التصريح الروسي عن اقتراب موعد الحرب هو إشارة متفق عليها مع واشنطن؟ أم أنها ملاحظة عابرة أطلقتها موسكو للتحذير... وتنبيه البيت الأبيض إلى وجود طرف آخر له مصلحة في العراق ومستقبله؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 142 - السبت 25 يناير 2003م الموافق 22 ذي القعدة 1423هـ