العدد 142 - السبت 25 يناير 2003م الموافق 22 ذي القعدة 1423هـ

الدول المشرقية تستطيع تقديم أنموذج أفضل للعالم

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

كثير مما يجري هذه الأيام على مستوى العالم تحدث مفكرون وسياسيون عن مخاطره. فمنذ مطلع التسعينات ظهرت أصوات على المستويين الاسلامي والأوروبي وحتى على مستوى الأمم المتحدة تدعو إلى سياسة جديدة تعتمد التفاهم والتعاون والحوار بدلا من التحدي والإقصاء والانفراد بالقرار السياسي.

الأوروبيون كانوا يسيرون بخطى حثيثة لتقوية مؤسسات الاتحاد الأوروبي الذي كان يسمى سابقا بالسوق الأوروبية المشتركة. وهم في طور ذلك نشأت فكرة «الدولة - القلعة» بدلا من «الدولة المناطقية» التي يسعى الأوروبيون إلى إقامتها باعتبارها بديلا عمليا وحضاريا للدولة القومية. الأوروبيون هم الذين أسسوا فكرة «الدولة القومية» الحديثة وهم أيضا أول من يتخلى عنها لصالح «الدولة المناطقية» التي تعتمد على ربط الأسواق أولا وحفظ الأمن المشترك على أساس ترتيب جماعي قائم على الثقة المتبادلة بين الدول، ولعل الأوروبيين كانوا أكثر الناس وعيا بالمشكلة القادمة، وهي تناقض وجود الدولة القومية، بل وتخلفها إلى الوراء بالجنوح باتجاه «الدولة - القلعة» مع متطلبات القرن الحادي والعشرين. أما الولايات المتحدة الأميركية فلم يكن هذا الحديث يعنيها بأي شكل من الأشكال، بل ان شعبها أكثر الشعوب عزلة وجهلا بما يدور في العالم. وحتى «الأخبار الدولية» هي أخبار هوليوود أساسا، بل ان الزائر لأميركا يستغرب من وجود «دورة كرة القدم العالمية»، وإذا تابع الخبر سيجد أنها كرة القدم الأميركية (استخدام اليد والثياب الحامية لرمي الكرة وركلها فقط لتسجيل الهدف). فكرة القدم ودورتها العالمية هي شيء خاص بأميركا لا يفهمه إلا الأميركي الذي تنصل من العالم وانكفأ في عزلته. الأوروبيون كانوا على اتصال بأوروبا الشرقية وبالشرق الأوسط وشمال افريقيا وكانوا أكثر وعيا بالمشكلة الجديدة، وهي مشكلة وجود «دائرة عنيفة وحمقاء». هذه الدائرة العنيفة هي التي تصدر المشكلات إلى غيرها (أوروبا تصدر مشكلاتها إلى العالم)، وتتوقع من الآخرين عدم تصدير مشكلاتهم إليها. وبعض المفكرين الأوروبيين كانوا يدعون إلى تبني فكرة «دائرة القيم الحميدة» بمعنى تصدير القيم الحميدة لكي تعود إلى أوروبا قيما حميدة. أما إذا استحوذت أوروبا على الخيرات ومنعتها عن غيرها فإن الآخرين سينهالون على أوروبا للجوء الاقتصادي وسيضطرون إلى إقامة «الدولة - القلعة» حول أوروبا. وفكرة «الدولة القلعة» مضادة لفكرة الاتحاد الأوروبي القائمة على مفهوم «الدولة المناطقية»، بمعنى ان المنطقة الأوروبية التي اندمجت أسواقها وتقاربت أنظمتها من بعضها الآخر كونت لها دولة قائمة على أساس هذا الاندماج الاقتصادي بالإضافة إلى الالتزام بالضوابط والقيم الديمقراطية والانسانية.

أميركا لم يكن يعنيها هذا الحديث في شيء، وكانت تنظر إلى الأوروبيين على أنهم «مضيعة للوقت»، وإذا بها تفاجأ بالحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وإذا بـ «الدائرة العنيفة الحمقاء» تجتاح أميركا، وإذا بالارهاب الذي كانت أميركا تغذي جذوره في بلاد بعيدة عنها (لأسباب واضحة للجميع) يغزوها في عقر دارها، وإذا بالإدارة الأميركية ترد على الارهاب بالعنف والقوة اعتقادا منها انها ستحمي نفسها، وإذا بأميركا تتحول إلى «الدولة - القلعة».

أما نحن في دول المشرق فلقد صدرت إلينا أوروبا وأميركا «الدولة - القلعة» وأصبحنا نعيش في «قلاع» لا نستطيع زيارة «القلعة» المجاورة الأخرى إلا بعد أن يتم تفكيك سياراتنا وتتم اهانتنا عبر فحص الجوازات وكأنهم يفحصون صورا لمجرمين... هذه «الدولة - القلعة» مضادة لفكرنا وحضارتنا الاسلامية التي قامت على أساس «وحدة الأمة» وليس «وحدة الجغرافيا»، ووحدة «الأمة» كانت أعلى من مفاهيم «الدولة - القلعة»، أو «الدولة القومية» حتى أعلى من «الدولة المناطقية» التي يعتبرها المفكرون أفضل النظم الانسانية الحديثة. غير أننا «أهل المشرق» لم نقصر أيضا فلقد أعدنا تصدير ما استوردناه من الغرب، ولذلك فإن أميركا اليوم هي «الدولة - القلعة» وأوروبا (على رغم وجود مفكرين يفهمون أكثر مما هو موجود في أميركا) أيضا تتجه نحو «الدولة - القلعة»، وأصبح كل «مشرقي» يزور أميركا (وأوروبا بدرجات أقل) متهما حتى يثبت العكس. ان ما نعيشه هذه الأيام من استعداد أميركي لتصدير الحرب الينا في مشرقنا ما هو إلا استمرار للدائرة العنيفة الحمقاء التي دخلنا فيها منذ فترة ليست قصيرة، والوقت مازال أمامنا للخروج من هذه الدائرة الحمقاء والدخول في «دائرة القيم الحميدة» فهناك بعض القادة الأوروبيين في ألمانيا وفرنسا وهناك بعض الدول المشرقية التي بدأت تجتمع في تركيا لأول مرة منذ تشكيل هذه الدول لتدارس وسائل الخروج من الحماقات التي تغذيها سياسات رعناء صادرة من ادارات تدعي الحضارة وتدعي الالتزام بالقيم الانسانية ولكنها لم تتوقف يوما عن تصدير الخراب والدمار والارهاب ووسائل القمع الينا. لقد آن الأوان لدول وشعوب المشرق لتتسلم دورها وتصدر إلى العالم بعضا من مفاهيم وقيم حضارتنا الاسلامية التي لم تصدر الدمار، فالمسلمون عندما ذهبوا إلى اسبانيا انشأوا أكبر جامعة في ذلك العصر وأكبر مكتبة علمية مازالت آثارها موجودة لحد الآن

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 142 - السبت 25 يناير 2003م الموافق 22 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً