بصراحة مباشرة... علينا ان نراجع أحوالنا، ونفتش عن نواقصنا، ونعالج قصورنا، بدلا من الانهماك المفرط في الشكوى الدائمة، من هجوم الآخرين علينا، واتهامهم بتشويه سمعتنا لغرض في نفس يعقوب.
في الحال الأولى نقوم بعمل إيجابي ودفاع فعلي عن النفس، أما في الحال الثانية فإننا نكتفي برد الفعل السلبي وإبراء الذمة، وشتان بين الحالين بالضرورة... لأن إدراك الخطأ واكتشاف المرض والبدء بمعالجته، يحقق المصلحة العامة ويفتح بابا للأمل، أما الانصراف عن ذلك بالتعمية والتجاهل، وتركيز الجهد على رد هجوم الآخرين - وقد يكون بعضه صحيحا أو مغرضا - فإنه يصب في النهاية في خانة استمرار التخلف والتدهور...
نتحدث الآن في ظل تحديات هائلة، بعضها دولي وإقليمي، وبعضها الآخر محلي، وهي تحديدا:
1- الحرب الأميركية الوشيكة ضد العراق، بدعاوى متهافتة، وإن كانت تتغطى بشعارات كبيرة، مثل الحرب العادلة، الحرب ضد الارهاب، تدمير أسلحة الدمار الشامل، حصار محور الشر، انقاذ الحضارة الإنسانية من براثن الشيطان، الدفاع عن المثل والقيم العليا!!
وبصرف النظر عن مدى صدقية هذه الشعارات المحرضة على الحرب، فإن النتيجة المتوقعة هي الدمار والصراع والضحايا وعدم الاستقرار، ليس فقط في ميدان المعركة المحدود - العراق - ولكن في المنطقة كلها الممتدة من باكستان حتى المغرب ومن السودان حتى تركيا، اتصالا إلى مناطق أخرى وآثار ضارة كثيرة في العالم كله.
2- تصاعد حدة العدوان الصهيوني في فلسطين، إلى الدرجة التي تحولت فيها الأوضاع، إلى حرب إبادة لشعب كامل، بأفراده ومؤسساته، وأرضه ومائه ووجوده ذاته، انتظارا لاقتناص فرصة تصدير الحرب العدوانية إلى دول عربية أخرى في الجوار القريب أو البعيد... بهدف فرض الهيمنة الإسرائيلية، تحت جناح الهيمنة الأميركية، بفكر وتطبيق استعماري جديد.
وكلا الحربين ارهاب صارخ للشعوب، وانتهاك فاضح لحقوق الإنسان...
3- يتصل بذلك، الخطاب السياسي الإعلامي الثقافي، الهاجم علينا من الغرب وهو خطاب يحرض على كراهية قومية محددة هي العروبة، وعلى ازدراء دين معين هو الإسلام...
وليس صحيحا ان هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن، كانت وحدها بداية هذا الخطاب المعادي الكاره، ولكنها فجرت موجة من أعتى موجاته وأحدثها، فجددت بالتالي فتح ملف ملغوم، عنوانه صراع الحضارات والثقافات والأديان، وصدام الغرب بالشرق!
4- يجري ذلك كله في إطار صعود العولمة بكل ضغوطها وشروطها، السلبية منها والإيجابية، ونحن بينهما أسرى الحيرة وربما العجز. وما يلفت النظر بهذه المناسبة على سبيل المثال، هو التناقض الفظ بين ما تتيحه العولمة من حرية تدفق وانسياب المعلومات من ناحية، وبين هيمنة ثقافة واحدة، واحتكارها لمصادر المعلومات والثقافات والمعارف الحديثة والتكنولوجيا المتطورة من ناحية أخرى.
5- في ظل تأثيرات العوامل السابقة، ازداد القلق في شارعنا الشعبي، وامتلأ بالغضب والتمرد المكبوت، ليس فقط من هول الضغوط الخارجية التي أوضحناها آنفا، ولكن أيضا من حدة الضغوط الداخلية، وخصوصا الأزمات الاقتصادية الاجتماعية، واختناق الحريات السياسية والمدنية وتدهور حقوق الإنسان، والتشدد في قضايا حرية الصحافة والرأي والتعبير، استغلالا لمناخ الحروب والعدوان - القائم والكامن أو المنتظر! ولذلك فنحن نطلب الإصلاح والتغيير اليوم قبل الغد...
ومثلما لا نقبل الانصياع لإملاءات الغرب، والخضوع لشروط العولمة، وضغوط الهيمنة الأميركية، فإننا لا يجب ان نقبل الاستسلام لواقعنا، الذي أصبح موضع نقد وتهكم الجميع، أصدقاء وأعداء، بل ان نقدنا لذاتنا، يجب ان يكون الآن الأعلى صوتا، ليس بهدف الإثارة الإعلامية والتشويه السياسي، ولكن بهدف إثارة الحوار الحر طلبا لإجلاء الحقيقة، ومعالجة القصور ومجابهة الأزمات بعيدا عن الغوغائية الدعائية.!
ومدخلنا إلى إجراء ذلك، هو الإعلام الحر والصحافة المستنيرة وحرية الرأي الموضوعي الرشيد، استنادا إلى المبادئ الرئيسية لحقوق الإنسان... أي ان جهدنا الرئيسي يجب ان ينصرف بداية، إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، وإلى تعميق حرية الرأي والتعبير، وتخليصها من القيود المتشددة والعقوبات المغلظة والتشريعات المتعسفة.
وعلى رغم اعترافنا بوجود هامش ديمقراطي في دول عربية محدودة، مثل مصر والمغرب ولبنان والأردن وغيرها قليل، إلا ان الوضع العربي العام لا يسر أحدا، من حيث احترام حقوق الإنسان وتوسيع حرية الصحافة والإعلام، وتعميق الإصلاح الديمقراطي الصحيح، علما بأن الديمقراطية ليست هدفا أو غاية، بل هي وسيلة لتنمية الإنسان والارتقاء به.
ولا يكفي هنا ان نظل أسرى مواقف متعارضة أو متناقضة، نلوك الكلام ونمضغ الألفاظ البراقة، ثم نخلد إلى النوم المريح...
لا يكفي - ولا يصلح - أن نقف أسرى موقف رسمي يرى ان بلادنا تتمتع بكل حقوق الإنسان وحرية الصحافة والإعلام، أو موقف معارض يرى النقيض تماما... ففي الحالتين لا ينفع كثيرا حال الرضا عن الذات، ولا حال جلد الذات!
إنما الذي ينفع حقا، أن ننظر في المرآة لنرى أنفسنا على حقيقتها، ونعرف أوضاعنا بكل واقعها، فيصبح العلاج يسيرا، والدواء صالحا للداء، وليس كالصحافة وأجهزة الإعلام الحرة، مرآة صادقة في الداخل، ولا خير أن نمد أبصارنا ونوسع بصائرنا إلى الخارج، لنعرف كيف يرانا الآخرون، سواء الذين يعادوننا ويشبعوننا نقدا وقدحا، أو الذين نتحالف معهم ونعجب بما لهم، فيشبعوننا أيضا الآن نقدا وقدحا، فإذا بخطابهم السياسي الإعلامي، أشد حدة من خطاب الأعداء! وربما يكون مفيدا في شأن التعرف على حقيقة واقعنا المختلف، ان نشير إلى تقارير دولية لها اعتبارها في عالم اليوم... ففي مجال الصحافة والإعلام، هناك تقارير صدرت للعام 2002 عن منظمة المادة 19 ومقرها لندن، ومنظمة «صحفيون بلا حدود» ومقرها باريس، ولجنة حماية الصحافيين ومقرها نيويورك، واتحاد الصحافيين العرب ومقره القاهرة، وكلها تتفق على أن طبيعة النظم السياسية الحاكمة، وقيود التشريعات، وسيطرة البيروقراطية، تعوق الصحافة والإعلام العربيين عن التقدم والتحرر والانطلاق في أداء الرسالة المبتغاة، ومن ثم فهي تضع الدول العربية جميعا في تصنيف الدول التي لا تعرف حرية الصحافة والرأي والتعبير كما يجب، وفق المعايير الدولية.
وباستثناء مؤسسة بيت الحرية في نيويورك، التي وضعت قائمة بالدرجات المرقمة لكل فئة من الدول، بحيث من يحصل على درجات من صفر إلى 30، يعتبر من الدول التي لديها صحافة حرة، ومن 31 إلى 60 صحافة حرة جزئيا ونسبيا، ومن 61 إلى 100 صحافة ليست حرة... وكانت النتيجة مخيفة حقا، إذ جاءت جزر القمر ثم الكويت ثم المغرب ثم الأردن بدرجات 38، 48، 53، 60 على التوالي، ضمن دول الصحافة الحرة نسبيا، أما باقي الدول العربية فتأتي في تصنيف الدول التي ليس بها صحافة حرة، مثل لبنان 61 درجة ومصر 65 درجة واليمن 69 درجة والسودان 85، وليبيا 90، والسعودية 92 درجة، وهذا يتفق إلى حد كبير مع تقديرات منظمة «صحافيون بلا حدود»، وان اختلفت الدرجات!!
وفي مجال التنمية البشرية واحترام حقوق الإنسان، لا يختلف الأمر كثيرا، كما رصدت التقارير الدولية الصادرة للعام 2002 من منظمات دولية محترمة، مثل التقرير العربي للتنمية البشرية، والتقرير الدولي للتنمية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وتقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وتقرير منظمة «هيومان رايتس ووتشن» الصادر قبل أيام قلائل...
كلها أيضا تجمع على تخلف الدول العربية في مجال التنمية، وفي التضييق على الحريات العامة وعرقلة التطور الديمقراطي، وفي انتهاك حقوق الإنسان، الأمر الذي انعكس أول ما انعكس على أوضاع الصحافة والإعلام... إذ يرصد التقرير العربي للتنمية، أسباب تخلف العرب في ثلاثة أسباب هي: غياب الديمقراطية، ونقص المعرفة، وتهميش المرأة، وملخصها جميعا عدم احترام حقوق الإنسان في العيش الكريم والمشاركة الفعالة في صنع القرار، وحرية الرأي والتعبير ومقاومة النقد والتخلف والتمتع بالحريات المدنية...
مرة أخرى يضع تقرير الأمم المتحدة، تصنيفا ثلاثيا لدول العالم، دول تتمتع بنظم حكم حرة وديمقراطية، ودول شبه ديمقراطية، ثم دول غير ديمقراطية، وكالمتوقع لم يأتِ ذكر أي دولة عربية في التصنيف الأول، وجاءت خمس دول هي على التوالي: الكويت وقطر والأردن وجيبوتي والمغرب، في التصنيف الثاني، أما كل الباقي ففي التصنيف الثالث!!!
وبصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه التقارير والدراسات الدولية، وخصوصا فيما يتعلق باختيار المعايير وتحديد المقاييس، فإن مصارحة النفس ونقد الذات - وليس الرضا عن الذات أو جلد الذات - تضعنا مباشرة أمام واقع متخلف يزداد تدهورا في بلادنا، بينما بلاد العالم تتسابق نحو التقدم والتنمية والديمقراطية والتكنولوجيا، وان الاستسلام لهذا الواقع يزيد الفجوة عمقا واتساعا، الأمر الذي يستوجب الإصلاح العاجل والتغيير الحتمي، انطلاقا من حاجة وطنية وبفكر وطني، وليس مسايرة فقط لضغط أجنبي أو اتقاء لنقد خارجي، وحديثنا اليوم هو مجرد محاولة أو اجتهاد وسط العواصف والأنواء، لعل وعسى!
ومن باب الاجتهاد الذي نطمع في أجره عند الله سبحانه، نقول إنه آن أوان الإصلاح الجذري،طلبا للديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والإعلام، على وجه الخصوص، وليس ذلك بمعضلة نووية، ان توفرت الإرادة والقرار، الرغبة مع القدرة، ولنبدأ بإصلاح مؤسسات صناعة العقل والوجدان وتشكيل الوعي، ونفي المنظومة الثلاثية: التعليم والإعلام والثقافة...
تلك هي المفارقة في مناخ التلقين والقمع الفكري والحشد والتعبئة والتبرير، بينما العالم من حولنا غارق في منافسات هائلة، للاستفادة من إنجازات أعظم ثورات الإنسانية، ثورة الديمقراطية، وثورة المعلومات، وثورة تكنولوجيا الاتصال، وكلها أضافت لحقوق الإنسان حقوقا جديدة، ووفرت للصحافة والإعلام أسلحة جبارة لصناعة الوعي وتكوين الرأي العام وقيادة المعرفة، نحو التقدم والرقي والحرية...
فإن كنا نعتقد ان ذلك يعتبر مدخلا أوليا للإصلاح الضروري، فإننا لا نغفل حتمية الإصلاح السياسي الاقتصادي الاجتماعي الشامل، الذي يقلص مساحات الفقر، مثلما يقلص نزعات الاستبداد، ويستأصل الارهاب ويحاصر التعصب والتطرف والغلو، ويعيد تركيب المناخ السياسي الفكري التشريعي، لكي يحرص على ثقافة الحرية وحقوق الإنسان والتسامح، وحرية المعارضين قبل حرية المؤيدين...
فقد خلق الله الإنسان حرا، وينبغي أن يظل كذلك إلى يوم تبعثون
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 141 - الجمعة 24 يناير 2003م الموافق 21 ذي القعدة 1423هـ