العدد 141 - الجمعة 24 يناير 2003م الموافق 21 ذي القعدة 1423هـ

لـِمَن العقاب ولماذا؟

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

من الطبيعي أن يكره الإنسان الحساب ويكره تبعات الحساب وهو العقاب. ولأنه من الطبيعي أن يكرهه الإنسان، فإن العقلاء منهم يفكرون في أعمالهم ويستعدون للمحاسبة قبل كل شيء. وديننا الإسلام قائم على أساس المحاسبة «بعد الإيمان بالله ورسوله (ص) بطبيعة الحال». والمحاسبة الدنيوية هي التي تعنينا في هذا المجال، لأن الحساب الأخروي بيد الله سبحانه وتعالى ولا علم لنا به. والمحاسبة تبدأ من النفس الإنسانية (الضمير)، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم إلى «النفس اللوامة». والنفس اللوامة هي أفضل أنواع الحساب وأكثرها استخداما لدى أكثرية البشر، وبسببها فإن الله يستر على عباده إذ يسارع كثير من الناس إلى العمل الصالح بعد ارتكابهم أية خطيئة، حتى لو لم يعلم بتلك الخطيئة إلا الله.

وبعد النفس اللوامة تأتي العائلة مباشرة، إذ أن للعائلة المتماسكة قوة حساب وعقاب، وتستطيع الإمساك بكثير من الأمور والإبقاء عليها داخل المنزل. والمسلمون متميزون على غيرهم بقوة العائلة التي تُصلح كثيرا من أوضاع أفرادها عبر المحاسبة، وإذا تطلب الأمر عبر المعاقبة بمختلف أشكالها المشروعة (إذ أن هناك وسائل عقاب غير مشروعة).

ثم وبعد العائلة يأتي دور المجتمع بمختلف أصنافه؛ من الجيران إلى النادي والجمعية إلى كل المؤسسات الطوعية الأخرى. أما ما بعد العائلة فتأتي الدولة، وهي التي تمتلك السلطات القضائية والإمكانات الكبرى الإلزامية. وعملية المحاسبة مشتركة ومتداخلة. فالقضاء ذاته يخضع للمساءلة عن إجراءاته من البرلمان والصحافة، والحكومة يسألها البرلمان وتسألها الصحافة ومجموعات الضغط، والجمعيات تسأل بعضها بعضا، وكل فئة وكل فرد من الشخص الاعتيادي والطالب إلى المدير والوزير، جميعهم مسئولون أمام هيئات أو أفراد، وجميع هؤلاء مسئولون عن أعمالهم، ما ظهر منها وما بطن، أمام رب العالمين.

والمساءلة والعقاب (إذا تطلب الأمر) هما جوهر الدين وجوهر الفطرة، ولا يختلف اثنان على ضرورتهما، والجميع يعلم أن غيابهما يعني الدكتاتورية ويعني الفساد ويعني الاستبداد ويعني انهيار الحضارة. ولتوضيح المراد مما ذُكر نشير إلى قصة العجوز الاسترالي الذي خرج للصحافة قبل عدة سنوات معلنا أنه كان يتعذب لمدة خمسين عاما، وأنه لم يعد يستطيع تحمُّل عذابه النفسي. فقبل خمسين عاما من حديثه إلى الناس والصحافة كان قد حصل على مرتبة أفضل طالب في استراليا، لأنه حصل على أعلى الدرجات. وافتخر به الجميع وتم تكريمه في عامه الذي فاز فيه. ولكن لم يعلم أحد أنه كان قد استخدم «الغش» للحصول على أعلى الدرجات. ولذلك ظل يتعذب ذاتيا لمدة خمسين عاما ولم يرتح أبدا إلا بعد أن أخبر أهله والناس والصحافة وطلب ممن يعرفه ألا يشير إلى تفوقه وحصوله على المرتبة الأولى، لأنه أخطأ عندما كان صغيرا وغشَّ في الامتحان.

العقاب الذي عانى منه هذا الشخص كان عذابا شخصيا لمدة خمسين عاما، وهو عقاب ارتبط بذاته؛ لأن فطرته الطيبة لم تقبل بما قام به عندما كان صغيرا. ولكن الأمور ليست بهذا الشكل في جميع الأحوال، ولذلك فإن محاسبة المجتمع ومحاسبة البرلمان ومحاسبة السلطة تصبح ضرورية، وخصوصا مع انخفاض الوازع الديني بتأثير من الحضارة المادية ـ الوجودية وبعد التفكك الأسري الذي ينتج عن انخفاض الوازع الديني أو وازع العادات والتقاليد الحسنة.

إن مفهوم العمل البرلماني الديمقراطي قائم على قدرة البرلمان على محاسبة الحكومة ومعاقبة الحكومة (بسحب الثقة منها إذا تطلب الأمر)، لأن الحكومة من دون برلمان تصبح من دون حساب ومن دون عقاب. وأي شخص يتسنم مسئولية عامة عليه أن يتوقع المحاسبة وأن يتحملها وإلا فعليه تقديم استقالته لإراحة نفسه وإراحة العباد منه.

المحاسبة يجب أن تكون عادلة وتطبق على الجميع، وهذا ما أكده رسول الله (ص) عندما قال: «واللهِ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». فالرسول (ص) كان يسعى (بوحي من الله) إلى تحويل العرب من أمة تسرق بعضها بعضا ويعتدي بعضها على بعض مدة ثمانية شهور كل عام (باستثناء الأشهر الحرم)، إلى أمة متوادة ومتآلفة ومنسجمة مع أهداف الاسلام، وبالتالي فإن العقاب الصارم شُرِّع لوقف تلك الأمور، والتشريع يطبق على الجميع حتى لو كانت فاطمة بنت محمد (ص). فالعقاب إذا استثنى أحدا لم يعد عقابا أبدا.

وتعرض هذه الأيام دور السينما فيلما باسم «عصابات نيويورك»، ويوضح الفيلم كيف كان أحد أحياء نيويورك في القرن التاسع عشر مملوءا بالجرائم والقتل والنهب، وأن مسئول الشرطة والعمدة وممثل الحزب السياسي وغيرهم من كبار القوم كانوا خلف السرقات والقتل والجرائم. وعندما ضج الناس اتفق هؤلاء السراق على إعدام أربعة فقراء ليس لهم من يسأل عنهم بعد إلصاق التهم بهم وإلباسهم ثوب الجريمة التي لم يرتكبوها. ولذلك فإن المجتمعات المتحضرة والمتطورة والحضارات الكبرى (ولاسيما حضارتنا الإسلامية في العهدين النبوي والراشدي) كانت جميعها تقوم على المحاسبة، والعقاب العادل المطبق على الجميع. وعندما توجد أنظمة المحاسبة والمعاقبة العادلة تنخفض المشكلات وتقل الجرائم ويتوجه الجميع إلى العيش في سلام آمنين

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 141 - الجمعة 24 يناير 2003م الموافق 21 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً