العدد 140 - الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ

مسرح سياسي عبثي يحمل اسم فلسطين وعينه على العراق

مؤتمر لندن عن إصلاح السلطة الفلسطينية:

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

مؤتمر اليوم الواحد عن اصلاح السلطة الفلسطينية، الذي شهدته العاصمة البريطانية لندن يوم الثلثاء 14 يناير كانون الثاني كان مسرحا سياسيا من الطرز الاول. المؤتمر، الذي عقد تحت رعاية وزارة الخارجية البريطانية، هو في الحقيقة نتاج افكار رئيس الوزراء طوني بلير ومكتبه. وقد اقتصر المؤتمر على ممثلي مصر والاردن والسعودية والمجموعة الرباعية. وذلك بعد ان ادت الصفقة التي وجهها ارييل شارون للمؤتمر إلى فتقار مشاركة الفلسطينيين، أصحاب الشأن، على وصلة تلفازية مع، رام الله. طبقا للتصريحات البريطانية المبكرة (قبل ان يفسد شارون الأمر) كان هدف المؤتمر هو تعزيز توجهات الإصلاح وإعادة بناء سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية وتمهيد الطريق لاستئناف العملية السلمية بين الفلسطينيين والاسرائيليين.

ولكن الحقيقة، كما هي التقاليد السياسية البريطانية، وجوه متعددة، ومؤتمر الاصلاح الفلسطيني لم يكن استثناء. على المستوى التفصيلي، لو كانت لندن قد نجحت في عقد المؤتمر، الذي واجه منذ البداية معارضة اسرائيلية قاطعة واستخفافا أميركيا، وكان اهم اهدافه هو رفع الجانب الفلسطيني بكل قواه إلى إعلان وقف قاطع لأعمال المقاومة حتى في ظل الاحتلال الاسرائيلي لمناطق الحكم الذاتي. ولعل وجود اللواء عمر سليمان، الذي يرعى منذ عدة اسابيع حوارا عن وقف اطلاق النار، ممثلا لمصر، يعطي دلالة واضحة عن هدف المؤتمر. مشروع إصلاح السلطة الفلسطينية الذي اصبح بقدرة قادر بديلا عن انهاء الاحتلال يتفرع إلى شقين رئيسيين.

المال والزمن. الجانب المالي تم انجازه إلى حد كبير بفضل جهود وزير المالية الفلسطيني الجديد سليمان فياض. اما الموضوع الامني فليس له الا عنوان واحد: ايقاف المقاومة الفلسطينية للاحتلال وقمع قوى المقاومة.

بيد ان مؤتمر لندن استهدف امورا ابعد واهم من تفاصيل المال والامن في سلطة الحكم الذاتي. الهدف الحقيقي للمؤتمر هو اخراج رئيس الوزراء البريطاني من ازمة تورطه المتزايد في المشروع الاميركي للاعتداء على العراق واستغلال التورط الذي يثير معارضة واسعة ومتزايدة في دوائر الحياة البريطانيه كافة.

طوني بلير اكثر رؤساء الوزراء البريطانيين نجاحا منذ عقود في إقناع الرأي العام البريطاني بانجازات حكومية لم تتحقق، أراد من مؤتمر لندن امتصاص شيء من الغضب العربي - الاسلامي المتصاعد ضد السياسات الغربية واستيعاب شيء من المعارضة في بريطانيا لمخططات الحرب العراق. باستعراض مسرحي قصير يقدم ليوم واحد فقط، سعى بلير إلى القول بأن بريطانيا تشارك العرب والمسلمين اهتمامهم بالمسألة الفلسطينة، وان الحرب على العراق لا تعكس الكيل بمكيالين لان لندن تعمل فعلا على إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية، وسعى ايضا إلى اسكات الاصوات البريطانية القوية داخل صفوف حزبه وفي صفوف نقابات العمال التي تجادل بأن المشكلة الحقيقية في الشرق الاوسط وفي العلاقة بين الاسلام والغرب هي فلسطين وليس العراق.

يواجه بلير، فيما يتعلق بالعراق وسياسة حكومته الخارجية بشكل عام، أزمة معددة المستويات. رئيس الوزراء العمالي الذي جاء إلى الحكم بوعوز تعزيز مواقع بلاده الاوروبية، يعيش الآن ما يشبه العزلة عن حلفائه الاوروبيين.

فرنسا والمانيا لا تتفردان فحسب في قيادة الاتحاد الاوروبي ورسم معالم مستقبله، بل تقودان ايضا معارضة رسمية اوروبية جادة للتوجهات الاميركية نحو الحرب على العراق والهيمنة على المشرق العربي. ترى الدولتان ان ادعاء لندن بأن تحالفها ودعمها لواشنطن هما السبيل الاهم للاحتفاظ بالتأثير على القرار الاميركي عند الحاجة هو إدعاء لا اساس عمليا له ويشكل إضعافا للموقف الاوروبي.

اذ أن بريطانيا لا تملك، ولن تملك ابدا، قوة «الفيتو» على القرار الاميركي الخارجي، ولو ان بريطانيا اعربت منذ البداية عن معارضتها لتوجهات الحرب الاميركية لما كانت منطقة الشرق الاوسط قد تحولت إلى مسرح لهذه الحشود العسكرية الاميركية الهائلة التي أصبحت بريطانيا شريكا فيها.

خلف الموقفان الفرنسي والألماني ثمة رأيا عاما اوروبيا معارضا للحرب، وخصوصا لحرب لا تتمتع بغطاء شرعي اممي في اطار قرار من مجلس الامن الدولي. تتراوح المعارضة الشعبية الاوروبية لمخططات الحرب على العراق الآن بين ما يزيد على نسبة الخمسين في المئة من البريطانيين وما يزيد على نسبة الثمانين في المئة من الفرنسيين. وليس هناك استطلاع رأي واحد في اي من الدول الاوروبية الرئيسية افاد بوجود اكثرية مؤيدة للحرب. الاهم، ان رايا عاما اوروبيا، يزداد قوة وتأثيرا يوما بعد يوم ويستند إلى جذور عميقة في الاوساط الاكاديمية والعمالية، وينفي وجود علاقة مسوغة بين الحرب على الارهاب والمسألة العراقية ويؤكد ان مخططات الحرب على العراق ترتبط بأهداف السيطرة الاميركية والأمن الاسرائيلي لا بحماية العالم من مخاطر الارهاب.

الرسالة الشعبية الاوروبية الواضحة ان الحرب على العراق هي خيار سيء في كل الاحوال، وان حربا من دون قرار من الامم المتحدة تمثل مخالفة قاطعة للقانون الدولي الذي تدعي واشنطن ولندن العمل على حمايته وتعزيز قيمه.

بل ان الحكومة البريطانية، التي وقعت الاتفاق بإنشاء محكمة جرائم الحرب الدولية، قد تصبح عرضه للاتهام بارتكاب جرائم حرب ان هي شاركت في العدوان على العراق من دون غطاء دولي، خصوصا ان تحول العدوان - كما يتوقع كثيرون - إلى مجزرة دموية للمدنيين العراقيين.

تجد هذه الآراء في مجملها صدى واسعا في حزب العمال البريطاني الذي يقوده بلير وبين اعضاء الكتلة البرلمانية للحزب وفي مجلس الوزراء البريطاني ذاته. ولا يستبعد ان سار بلير نحو حرب لا تتمتع بغطاء دولي وتقتصر على تحالف اميركي بريطاني ان يواجه بلير معارضة صلبة في البرلمان البريطاني يقوده العشرات من النواب العماليين المنشقين، وربما بعض الاستقالات من مجلس الوزراء وهو ما يستدعي ازمة انطوني ايدين عقب العدوان الثلاثي على مصر في 1956 والتي ادت إلى انهيار حكومة المحافظين آنذاك وخسارة ايدن لموقعه.

الاستنتاج البديهي في مثل هذا الموقف هو ان يتراجع طوني بلير عن الانسياق وراء مخططات الحرب الاميركية التي يعرف بلير، ربما اكثر من اي شخص آخر، انها نتاج التأثير غير الطبيعي لحفنة صغيرة داخل النخبة الاميركية الحاكمة على القرار السياسي في واشنطن. ولكن ازمة بلير اكثر تعقيدا مما يتصور كثيرون، وهي ازمة ذات جذور عميقة في الوعي السياسي البريطاني. بلير كما معظم رؤساء الوزراء البريطانيين منذ وضع هارولد ماكميلان سياسة تصفية الإرث الامبراطوري في مطلع الستينات يعتقد ان تحالف بريطانيا مع الولايات المتحدة أو على الاصح التحاق بريطانيا بالعربة الاميركية) هو الضمان الاكبر لتأثير بريطانيا في العالم. وليس في هذا من سر، فقد عبر بلير عنه بشكل واضح في الكثير من خطاباته وتصريحاته، حتى قبل ايام قليلة من كتابة هذا المقال. خلال الستينات ومطلع السبعينات، عندما كانت بريطانيا في حال تراجع اقتصادي مستمر وكانت علاقاتها بدول العالم الثالث مازالت اسيرة الميراث الاستعماري، ولم تكن بعد قد اصبحت، عضوا مهما وفاعلا في المجموعة الاوروبية، كان هناك ربما ما يبرر الاعتقاد بأن العلاقة البريطانية - الاميركية (الخاصة) ضرورية وحيوية للمحافظة على الدور البريطاني العالمي. ولكن العالم تغير كثيرا خلال الثلاثين عاما الماضية، وليس هناك من شك في أن حجم بريطانيا الثقافي والعلمي، وعلاقاتها الاقتصادية عبر المعمورة، وموقعها الاوروبي، تؤهلها لممارسة دور عالمي يفوق كثيرا الدور الذي تلعبه من خلال تحالف ثقيل التبعات مع سياسة اميركية تزداد نزوعا نحو الامبريالية الفجة والكريهة. ولكن بلير، الذي يفتقد صفات ومؤهلات المتأمل السياسي، لا يريد ان يرى حجم بلاده بمعزل عن القطار الاميركي، ولا يرى في تحرير السياسة البريطانية من اسر تصور كان له ما يبرره في وقت مضى واصبح اليوم غير مبرر ولا منطقي، وقد تحول إلى مصدر للمعارضة البريطانية الواسعة.

فقط في هذا السياق يمكن فهم المغزى الحقيقي لمؤتمر لندن عن اصلاح السلطة الفلسطينية. مستشعرا الازمة المتفاقمة التي تحيط بمشروع الحرب على العراق وعاجزا عن ممارسة اي ضغط حقيقي على الدولة العبرية (في مواجهة تأييد اميركي مطلق لشارون)، وجد بلير ان الخيار الوحيد المتاح له هو عقد مؤتمر مظهره المساعدة في إحياء عملية السلام وجوهره الضغط على الفلسطينيين.

والا فأي اعادة بناء جاد يمكن الحديث عنها لسلطة حوّلها شارون إلى طابق واحد في بناية مدمرة وسط مدينة تحاصرها الدبابات الاسرائيلية من كل الجوانب؟ لقد جعل شارون من السلطة ومن ورائها اتفاق اوسلو وكل مشروع السلام المنبثق عنه إلى مهزلة سياسية، وليس من الصعب ان يرى المراقب حجم العبث الذي يحيط بكل تحرك دولي لا يبدأ بالمطالبة بانهاء الاحتلال. قد يتعاطف المرء مع تصريحات وزير الخارجية البريطاني جاك سترو، المنددة بسياسة المنع والحصار التي يمارسها الاسرائيليون، والتي طالت اخيرا السياسة البريطانية ذاتها، وقد يتفهم لماذا أبدت السلطة الفلسطينية حماسا مفاجئا لمؤتمر لندن واصطفت مجموعة من مسئوليها في رام الله في مشهد تراجيدي امام كاميرات الوصلة التلفازية مع المجتمعين في العاصمة البريطانية. السلطة الفلسطينية في النهاية تبحث بلا جدوى عن بصيص امل يوحي بعودة اهتمام القوى الغربية بالقضية الفلسطينية. ولكن دوافع طوني بلير وراء هذا كله هي شيء آخر تماما. يعرف بلير ألا مخرج في الافق، على الاقل خلال هذا العام. لهذه الجولة الدموية من الصراع على فلسطين. ويعرف فوق ذلك ان مؤتمر لندن ليس اكثر من مسرح سياسي لحل اشكالات ازمة تحالفه الخطر مع إدارة اميركية لا يمكن وصف سياساتها تجاه العرب والمسلمين الابالهستيرية والحمق والمغامرة. الحديث

العدد 140 - الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً