تساءل السياسي الأميركي المخضرم هنري كيسنجر في إحدى المرات مستنكرا: «هل الناس كراسي في غرفة يمكن إعادة ترتيبهم؟!». وهذه الجملة صحيحة ومعبرة، إذ أن الإنسان ليس جمادا وليس كرسيا يتم إخراجه من غرفة إلى غرفة أو يتم إخراجه من موطنه وإعادة توطينه في مكان آخر.
هذه الجملة الصحيحة لم تخرج من فم سياسي عربي أو إسلامي، وإنما من لدن أحد مهندسي السياسة الأميركية، ولكن المشكلة هي أن الأفكار المنطقية والإنسانية جميعها يتم إلغاؤها وغض الطرف عنها عندما تتعامل الولايات المتحدة الأميركية مع قضايا الشرق الأوسط.
الحكام الصهاينة في فلسطين المحتلة، وبمساندة الولايات المتحدة، ينفذون سياسة غير إنسانية ولا تمت للمنطق العقلاني البشري بصلة. فمنذ احتلالهم فلسطين العام 1948، وهم يتعاملون مع فلسطين وأهلها تماما بالطريقة نفسها التي استنكرها هنري كيسنجر. ولم تكتفِ «إسرائيل» بمصادرة وسرقة أراضي فلسطين وطرد أهلها، وإنما تحاول فرض نظام غريب عن منطق البشر على الفلسطينيين، فيما تبقى لهم من أراض في الضفة الغربية وغزة. وحتى غزة الفقيرة والمعدمة سرقت «إسرائيل» خمس أراضيها وأزاحت الفلسطينيين عن أي مصادر للمياه، وتتعامل مع أهل الأرض تماما كما يتعامل شخص ما مع كراسي في غرفة ما. وسبب هذا النهج وغيره من السياسات التي لا تنتمي إلى بني البشر، أن القضية الفلسطينية كانت وستبقى محورا لمفاهيم الخير والشر.
وهنا أيضا يتناقض الأميركان مع بقية البشر، إذ ان لدى أميركا قائمة «بالأشرار» الذين تعتبرهم خارجين عن إرادتها وتسميهم «محور الشر» وتخصص هذ التصنيف لأناس ودول اختلفوا معها سياسيا. وهذا التصنيف غير المنتمي إلى بني البشر تفرضه أميركا بالقوة مستخدمة بذلك جميع ما تملك من قوة ونفوذ على كل المستويات، إيمانا منها بأن «الحق هو ما يقوله القوي». في مقابل هذا المنطق يوجد منطق آخر نابع من صميم طبيعة الإنسان، ويقول إن «الحق هو الحق حتى لو قاله أو آمن به الفقير والضعيف».
فالشعب الفلسطيني يطالب بحقه على أرضه المحتلة منذ العام 1948 وأميركا تقف ضد حقه في تقرير مصيره وتساند «قوى الشر» التي لا تعترف ببني البشر غير اليهود. والشعوب العربية والإسلامية تطالب بحقوقها في إقامة أنظمة عادلة وديمقراطية، إلا ان الولايات المتحدة تستهدف أية دولة إذا اعتقدت بأن نظام تلك الدولة لم يعد يلبي متطلبات «المصالح الحيوية الأميركية». وأصبح ميزان العدالة لديها هو اقتراب هذا النظام أو ابتعاده عن تحقيق مصالحها الحيوية الأنانية، ولا بأس بعدم وجود ديمقراطية وعدم وجود عدالة مادامت المصالح الحيوية محفوظة. أما إذا تهددت واحدة من تلك المصالح الأنانية، فالويل لهذا النظام أو ذلك الشعب.
إن الولايات المتحدة، وبسبب قدراتها العسكرية والاقتصادية والثقافية الهائلة، أصبحت العامل الحاسم في كثير من شئون العالم، ولذلك فإن أية حركة تقوم بها وأي قول ينطقه مسئول من مسئوليها له تبعات على مستوى العالم كله. وكلمة واحدة من رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي بإمكانها زيادة أو نقصان ثروات دول وشركات وأفراد في كل أنحاء العالم، وهكذا الأمر أيضا في الأمور الأخرى. إلا ان كل تلك القوة وكل تلك الإمكانات لا تستطيع ان تجعل الباطل حقا والحق باطلا. ولو كانت الولايات المتحدة تستطيع ذلك لاستطاعت قوى أخرى ملكت مشارق الأرض ومغاربها القيام بمثل هذا الأمر.
ومع علمنا أن الولايات المتحدة لا تقبل النصيحة من أحد، إلا انه بإمكان سياسييها أكثر من غيرهم قراءة التاريخ والمنطق الإنساني الذي يخالف سياساتهم التي يحاولون تنفيذها في العالم عموما والشرق الأوسط خصوصا. ولعلهم يستفيدون مما أشار إليه بسمارك الذي عاش بين 1815 و1898 وأسس ألمانيا الموحدة عندما قال إن القوى الكبرى «تبحر في نهر من الزمن، وانهم لم يخلقوا هذا النهر ولا يستطيعون تغيير مجراه، وكل ما بإمكانهم القيام به هو الإبحار بخبرات ومهارات تزداد أو تقل عن قدرات تلك القوى». وعلى هذا الأساس فإننا نؤمن بأن أميركا لن تستطيع إعادة خلق أو تغيير النهر الزمني المرتبط بفطرة الإنسان، تلك الفطرة التي ربطها خالقها بالعدل والخير. وربما استطاعت الولايات المتحدة الاستفادة من قوتها في نشر الخير لنفسها وغيرها، ولكن كل ذلك يرتبط بضرورة ربط سياساتها بمنطق الإنسانية وليس بمصالحها الحيوية الأنانية التي لا تضع لأحد حسابا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 140 - الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ