العدد 139 - الأربعاء 22 يناير 2003م الموافق 19 ذي القعدة 1423هـ

كيسنجر: الحرب ضد أوروبا الموحدة وعملتها... إذا حل اليورو محل الدولار!

استقال حرصا على غموض «زبائنه»

أحمد مغربي comments [at] alwasatnews.com

يبدو المشهد الاستراتيجي متناقضا بين ضفتي الاطلسي. ففي يوم واحد، اعلنت اوروبا عن وحدة 25 دولة. وامتد الجسد السياسي الاوروبي الى قامة لم يبلغها ابدا في تاريخه، حتى في ايام الامبراطورية الرومانية الغابرة. وفي المقابل، استقال هنري كيسنجر من لجنة التحقيق الامني في حوادث سبتمبر/ ايلول 2001. وسبقه استقالة وزير الخزانة ولم تفصل الاستقالتين سوى أيام قليلة.

وأجمع المراقبون على اعتبارها مؤشرا على تخبط ادارة الرئيس جورج بوش (الابن)، وعجزها عن حل الازمة الاقتصادية المذهلة في اميركا.

صعود أوروبي واضح... وتخبط أميركي واضح

ترى كيف يبدو هذا المشهد الاطلسي في عيني كيسنجر، الذي شغل السياسة الاميركية عائدا ومستقبلا، بعد ان مارس صناعة القرار السياسي فيها سنوات طويلة في سبعينات القرن الماضي.

جمع كيسنجر منصبي مستشار الأمن القومي، الذي شغله منذ العام 1969، اي في الفترة الأولى من ولايتي الرئيس ريتشارد نيكسون، وبين وزارة الخارجية. ويعتبر هذا الجمع من الامور النادرة في التاريخ الاميركي. وتابع كيسنجر حضوره القوي بعد خروجه الرسمي من الادارة في العام 1976، عقب هزيمة الحزب الجمهوري على يد الرئيس جيمي كارتر، من خلال نفوذه الواسع في الحزب الجمهوري، والاكاديميات الاميركية التي ترفد الادارة بـ «مفكريها». وخصوصا جامعة هارفرد التي عمل فيها استاذا محاضرا لفترات مديدة. وبعدها وربما الأهم شكل«مؤسسة هنري كيسنجر وشركائه». وبحسب رسالة استقالته إلى بوش، خشي ان يطول الكشف عن المصادر المالية لمسئولي«لجنة التحقيق الامني» حوادث سبتمبر، إلى حد المطالبة بالكشف عن الزبائن الذين يتعاملون مع تلك المؤسسة، فاستقال. ترى اية مؤسسة تلك التي يستقبل سياسي فيها من موقع الصف الأول في صنع القرار السياسي في دولة عظمى؟ هل يكفي ان نقول ان تلك المؤسسة، التي تتخصص في الاستشارات القانونية والسياسية، خرجت اشخاصا مثل، مستشار الأمن القومي لدى الرئيس جورج بوش (الأب)، برنت سكوكرفت ووزير الخارجية الأميركية في الحقبة نفسها جيمس بيكر، ومساعد وزير الخارجية ابان ولايتي الرئيس الجمهوري رونالد ريغان والمشرف على عملية السلام في الشرق الأوسط في ولايتي الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون دنيس روس والمستشار السياسي لريغان، روبرت مورفي، وسفير اميركا في تونس ايام وجود منظمة التحرير فيها، ثم المستشار لوزيرة الخارجية مادلين اولبرايت، روبرت بليترو والقائمة طويلة.

ذلك كله للقول ان كيسنجر لا يعتبر شخصا عابرا في المؤسسة السياسية «استابلشمانت» التي تصنع القرار السياسي في الولايات المتحدة الاميركية. ومن هنا لم يكن مستغربا ان يحرص رؤساء اميركا على حضوره الشخصي في الاتفاقات كلها التي عقدت بين العرب واسرائيل منذ بداية ما يسمى بعملية السلام في الشرق الاوسط. وهذا مجرد نموذج. ولم يستغرب احد ان يكون حاضرا في ذهن بوش (الابن) فسماه رئيسا للجنة التحقيق في اهم حادث هز اميركا المعاصرة. الاستراتيجي والغامض والمتأمر

قبل الرئيس بوش الاستقالة «بمرارة»، اما ستيفن بوش فانه استقبلها بذهول! ويرأس بش لجنة عائلات ضحايا 11 سبتمبر/ أيلول. «لقد اجتمعت معه فوجدته غامضا. ولكنه أكد لنا عدم وجوداي تضارب بين مصالحه الخاصة والتحقيق. وها انه الآن يستقيل معلنا ان التحقيق يتضارب مع مصالحه الخاصة»! بهذه الكلمات تحدث بش إلى صحيفة «واشنطن بوست». وبدا وكأنه آخر من شرب من كأس الدهاء الكيسنجري الذي جربته شعوب العالم على شكل مجازر ودمار اوطان. ولم تلصق تهم الكذب والمخاتلة والمخادعة الشيطانية باي وزير للخارجية بقدر كيسنجر. ولم تطالب شعوب في العالم بمحاكمة اي وزير خارجية اميركي سابق كمجرم حرب، سواه هو. وتمتد قائمة التهم من سلفادور إلى كمبوديا وفيتنام وتيمور الشرقية. (انظر المربعين الخاصين «مواقع على...» و«كيسنجر بلسانه»).

ويذكر موقف بش بما حصل في 11 يوليو/ تموز من العام 1995، حين اطلق كتابه الشهر «دبلوماسية». وفي مؤتمر صحافي، في فندق «سنترال بارك» في نيويورك. حينها، وقف شاب تيموري، اسمه كونستاسيوبينتو ليذكر كيسنجر بزيارته إلى اندونيسيا (1975).

التي سبقت زحف الجنرال سوهارتو إلى تلك الجزيرة، فاتكا بحياة مئتي الف من سكانها في غمضة عين. وسأل الشاب بوضوح عن سبب سكوت الادارة الاميركية عن تلك المجزرة. وشرع الوزير في اللف والدوران. «هناك ظروف. هناك استراتيجيات الحرب الباردة. هناك فيتنام. هناك حرب لبنان. هناك استراتيجية التقرب من الصين. هناك... هناك...». وأمام الاصرار المهذب، والمدعم بالوثائق، للشباب، اضطر كيسنجر إلى الاعتراف بأن الادارة غضت النظر عن حليفها سوهارتو! والحال ان الوزير السابق لم يعترف ابدا يتواطئه مع الجنرال اوغستينو بينوشيه للاطاحة بالرئيس المنتخب ديمقراطيا سلفادور الليندي. وقبل سنتين، افرجت «وكالة الأمن القومي» عن وثائق تثبت تأمره في بقاع عدة من العالم. وبقي شبح الليندي يطارده حتى الآن، كلعنة فرعونية. ولم ينس الكونغرس، في الأزمة الحالية لتعيينه انه كذب بشأن دوره في تشيلي.

قوة الـ «يورو» والحرب على أوروبا!

وفي 27 يناير/ كانون الثاني من العام 1997، نشرت مجلة «نيوزويك» مقالا مطولا لكيسنجر عنوانه «المخاطر المقبلة: عالم لم نعرفه».

وشرح فيه وجهة نظره عن التحديات التي تواجه القوة الاميركية في العالم في القرن الحادي والعشرين. وركز على ثلاث مناطق هي آسيا وأوروبا ومنطقة الخليج. وفي آسيا، رأى ان روسيا لن تشكل خطرا، كما انها لن تصبح ليبرالية على الطريقة الغربية. وشدد على الاهمية القصوى للصين. «يجب العمل على تجنب تام للحرب معها... يجب الحرص على عدم نشوء اي سوء فهم بين الصين واميركا». ومع صمته عن موضوع تايوان، تصبح الترجمة الفعلية لهذا الكلام هو القبول باحتمال ضم الصين الكبرى للجزيرة الصغيرة!

واعتبر كيسنجر دول الخليج العربي مصدرا لمخاطر كبرى. ولا ينسى لها ما فعلته في العام 1973. «لقد تمكنت بضع دول محدودة القوة تماما من التأثير على العالم... رفعت أسعار نفطها بنسبة 387 في المئة خلال 3 أشهر، ما اطلق ازمة اقتصادية دامت عشر سنوات... (وهذا) هدد النظام المالي والاقتصادي العالمي، وهز الأرض تحت اقدام الديمقراطيات في الدول الصناعية». وحدد المملكة العربية السعودية مصدرا محتملا للمخاطر. «تعيش المملكة حال عدم تكييف بفعل التحديث وتبني التكنولوجيات المتقدمة في الاتصالات والاعلام، التي تجلبها اموال النفط والتوظيف في التعليم». وشدد على الدور الاستراتيجي لتركيا في ضبط توازنات العالم العربي والاسلامي.

ولم يبدُ خائفا من اي شيء قدر خوفه من اوروبا! ورفع صوتها الى حد أن يكون لها عملة موحدة قوية لتشكل وضعا لم يسبق لاميركا ان عرفته... وستنطلق حرب اقتصادية ضروس بين جانبي الاطلسي.

وبالطبع، لم ينطق المقال بكلمة الحرب العسكرية بين اوروبا والولايات المتحدة، بل ووصفها بأنها «تقريبا غير واردة». تقريبا؟ اذا دققنا النظر بالكلام والافعال، فلا شيء ادعى إلى الحرب من الاقتصاد. ليس فقط ان اشهر مقولة عسكرية في الغرب هي عبارة الالماني فون كلاوزفيتز «الحرب امتداد للاقتصاد بوسائل اخرى». ليس فقط ان «حرب البوير» لتقاسم المستعمرات في افريقيا مهدت للحرب العالمية الأولى. وليس فقط ان الف باء الفكر السياسي الغربي يرى ان الانتقال من حرب المصالح الى حرب البنادق، هو دائما اقرب إلى السياسة من حبل الوريد. بل ايضا ان الحروب الحديثة كلها، دارت حول الاقتصاد. انه المال، الاله الخفي الذي يهيمن على عقول صناع القرار في دول الأرض كلها.

من هنا تصبح صورة العالم قاتمة. اذا امسكت اوروبا بنفط العرب وغازهم كليا، فانها تمسك بالشيء الاستراتيجي الوحيد الذي ينقص اوروبا، اي الطاقة. وهذا مدخل روسيا، وايضا بالنفط والمال، إلى الخريطة الدولية. وراهنا، يبدو الخلاف على العراق وكأنه مقدمة لتجاذب دولي. ومع رجال مثل كيسنجر، ورجاله تلامذته في اميركا، يبدو شبح الصراع الدولي، وكأنه لا يستبعد ان يعود ليلقي بثقله على شعوب المنطقة العربية. وفيها شعوب تعاني ما تعاني. وهذه امور تحتاج إلى نقاش مديد

العدد 139 - الأربعاء 22 يناير 2003م الموافق 19 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً