في منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول 2002، أي بعد حوالي 13 عاما على سقوط جدار برلين، فتحت دول أوروبا الغربية أبوابها لدول شرق ووسط أوروبا «الشقيقة» (والمتعارف على تسميتها بمجموعة «بيكو»)، التي بقيت خلف «الستار الحديد» منذ تقسيم أوروبا في يالطا. فعلى رغم الترحيب العلني والود الذي أظهرته وسائل إعلام دول الاتحاد الأوروبي، فإن حكوماتها وشعوبها ومؤسساتها، أبدت تخوفا ملحوظا بحيث أبقت يدا على القلب واليد الأخرى بقيت ممسكة بمفاتيح خزائنها. لسبب بسيط، وهو أن الكلفة التقديرية الأولية لعملية التوسعة شرقا بانضمام عشر دول جديدة على مدى السنوات الثلاث المقبلة تبلغ نحوا من 27 بليون دولار؛ أي ما يوازي الـ 25 يورو سنويا لكل من الـ 380 مليون مواطن أوروبي. بناء على هذه التوقعات، عمد «البنك المركزي الأوروبي» إلى خفض تقديرات النمو الاقتصادي للعام الجاري في أنحاء القارة كافة.
في موازاة هذا التشخيص، تخشى الدول العربية المتوسطية، الموقعة على اتفاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي ـ وهي كل من تونس والمغرب والجزائر والأردن ولبنان ومصر والسلطة الوطنية الفلسطينية ـ أن تأتي هذه العملية على حساب اقتصاداتها، ذلك كون الدول الأوروبية المنظمة حديثا تصعد عمليا الإنتاج نفسه، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى نشوء تنافس حاد من شأنه أن ينعكس سلبا على حجم صادرات هذه الدول العربية وبالتالي على عائداتها من النقد الأجنبي، الذي تعلق عليه الآمال الكبار لتصحيح موازين مدفوعاتها.
مصادر القلق وصعوبة التوازن
إذا كانت دول أوروبا الغربية التي تخاف من أن تخلق لها التزاماتها المالية حيال «الضيوف الجدد» مشكلات في ظل حال الركود الجارية، إلا أن دول جنوب المتوسط وشرقه تخشى تهميش شراكتها الحالية مع أوروبا، إضافة إلى عدم قدرتها مستقبلا على مقارعة فعالية دول «بيكو» الاختراقية المتزايدة للأسواق المجاورة. وما يزيد الأمور تعقيدا كذلك بالنسبة إلى الدول العربية المتوسطية، انعكاسات الحال الضبابية المحيطة بالوضع في الشرق الأوسط وآفاق الحرب المحتملة على العراق على مجمل اقتصاداتها التي تعاني منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001. فمسألة توسع الاتحاد الأوروبي شرقا لا تزعج المسئولين السياسيين فقط، بل أيضا النخب المثقفة والدوائر الاقتصادية التي تشارك في وضع القرارات في منطقة المغرب العربي، التي بدأت تتحدث عن التخلي الأوروبي؟ في حين يتساءل البعض الآخر عن كيفية مواجهة هذا التحدي المفروض وضرورة عدم انتظار العام 2005 الذي ستتم خلاله العملية الاندماجية الكاملة، واستعداد القطاعين العام والخاص في هذه الدول العربية قبل حدوث الاستحقاق، سواء عبر تحسين ورفع مستوى مؤسساتها من جهة، ووضع سياسات موحدة للتعاطي مع دول الاتحاد الأوروبي الـ 25، وعدم ترك المجال لها لفرض شروطها. ما يعني، حسب مسئول مغاربي كبير، إفهام الأوروبيين بأن عليهم التعاطي من الآن وصاعدا مع الدول العربية المتوسطية الشريكة، باعتبارها مجموعة وعدم السماح لهم باستفراد الواحدة تلو الأخرى من جهة؛ ومن جهة أخرى عدم المساومة في موضوعات الأمن المتوسطي والهجرة وانتقال الأفراد والبضائع مقابل صفقات زراعية محددة وظرفية.
في هذا السياق، وفي إحدى المداخلات التي قام بها لمناسبة مرور سبع سنوات على توقيع بلاده على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (الأولى مع بلد عربي متوسطي)، لم يخفِ وزير التجارة التونسي السابق وسفير بلاده الحالي لدى المجموعة الأوروبية وأحد مهندسي هذا الاتفاق طاهر حيود، خشيته من انعكاسات هذا التوسع بالقول: «إذا ذهب يورو واحد لـ 12 دولة في جنوب المتوسط وشرقه، فإن هنالك عشرة يورو على الأقل، ستذهب في المقابل إلى البلدان التي ستنضم لاحقا إلى الاتحاد»؛ مضيفا بنوع من العتب الرفيع: «ليس بهذه الطريقة ستساعد أوروبا دول المغرب العربي على تثبيت انتعاشها الاقتصادي وتحسين أداءاتها ورفع مستويات المعيشة فيها وفق تطلعات الشراكة، ويذهب أحد الوزراء المغاربة الذي فضل عدم الكشف عن هويته إلى أبعد من ذلك بانتقاده التفاوت في التعاطي مع الشركاء بالإشارة إلى أن «القادة المغاربة يرون في هذا التوسع الجاري تنفيذه قريبا بمثابة بداية للرجوع عن العلاقات التاريخية والثقافية والاقتصادية، على رغم بعض الزيارات التي يقوم بها مسئولو دول شمال أوروبا منذ فترة، ومشروع بعض رؤساء دول شرق أوروبا بالتعرف عن كثب على منافسيهم في الشراكة».
وتفيد بعض المصادر الأوروبية المطلعة في هذا الإطار، أن الرئيس الجزائري، عبدالعزيز بوتفليقة، لم يتردد خلال لقائه مع وفد من النواب الدانماركيين الذين تترأس بلادهم في هذه الفترة الاتحاد الأوروبي، في إخفاء امتعاضه من الفارق بالتعامل بين بلاده ودول شرق أوروبا ووسطها، وقال بحدة ملفتة: «أعتقد أن المغاربي هو أقرب إلى أوروبا الغربية من البولوني، إلا إذا كانت هناك اعتبارات أخرى أجهلها». مداخلة فاجأت زواره الذين حاولوا إعطاء تطمينات بالنسبة إلى مستقبل العلاقات مع الاتحاد واحترام التعهدات والتوقيعات المبرمة. المهم في كل ذلك أيضا، أن عملية التوسع الحاصلة تأتي في الوقت الذي يرى فيه عدد كبير من المحللين السياسيين والاقتصاديين في الغرب وداخل الدول العربية المتوسطية، أن اتفاق الشراكة اليورو ـ متوسطي المعروف باسم «برشلونة» يراوح في مكانه منذ فترة على رغم توقيع عدد من الاتفاقات كان آخرها مع لبنان والجزائر. من ناحية أخرى، يؤكد أحد خبراء بروكسيل، أن توسيع الاتحاد شرقا ليس مسألة ذات طابع اقتصادي بحت أو ديني كما يصوره البعض، بل إن للديمقراطية دورا في الخيارات المتخذة، كون الشروط قد توافرت في هذا المجال في دول «بيكو» في حين لم تنضج بعد في الدول العربية المتوسطية الشريكة على رغم بعض الخطوات التي أنجزت في عدد من هذه البلدان.
انطلاقا من هذه المعطيات والفرضيات والتفسيرات، يطرح التساؤل التالي: «هل يمكن تبرير المخاوف الناجمة عن المنافسة بين المنطقتين الأقرب إلى الاتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن، بشكل موضوعي، تصور احتمال إزاحة الدول المتوسطية من قبل بلدان شرق أوروبا؟
حسابات الربح والخسارة
إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي الـ 15 الحالية تحسب بدقة كلفة التوسع الجديد الذي يفرض على الموازنة الاتحادية البالغة اليوم 106 بلايين يورو للعام 2003، أن يجد 15 بليونا إضافية سنويا بين العامين 2004 و2006، فإن الدول العربية المتوسطية الشريكة تتخوف من أن يؤدي هذا الالتزام المالي الجديد إلى تأجيل تعهدات الأوروبيين لناحية المساعدات المتعلقة برفع مستوى شركاتها الصناعية، أو عرقلة صرف المستحقات العائدة لها ضمن برنامج «ميدا 2». ولا تتوقف المخاوف عند هذا الحد. هذا ما يؤكده عدد من المسئولين عن ملفات الشراكة في الدول العربية المتوسطية، الذين يربطون المخاوف المطروحة بمحاور ثلاثة، أولها تلك المرتبطة بالتحويلات المالية العامة والخاصة لأوروبا، والتي وفق نظرة آلية بحتة، ستتأثر سلبا وحتما، بفعل المبالغ التي سترصد لشرق أوروبا. واقع يقر به نائب رئيس «البنك الأوروبي للاستثمار» فرانسيس ماير، الذي كان قد أعلن في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إنشاء صندوق خاص لدعم دول جنوب المتوسط وفق وتيرة تدفق مالي سنوي تتراوح بين 1,4 و2,1 بليون يورو، من الآن وحتى العام 2006. فعلى رغم محاولاته الابتعاد بعض الشيء عن صلب الموضوع خلال الإشارة إلى «أن دخل الفرد الوسطي السنوي في دول شمال المتوسط يصل إلى 20 ألف دولار، بينما لا يتجاوز الـ 2000 دولار في دول جنوبه، في حين يبقى أقل بكثير منه في دول شرق أوروبا إذ يصل الدخل اليوم إلى نحو من 8000 دولار. بناء عليه، من المتوقع أن يفضي دخول مجموعة «بيكو» إلى الاتحاد إلى تعزيز دخل مواطنيها، وبالتالي، تعميق الهوة! هذا إذا ما أخذنا في الحساب النمو الديموغرافي الآخذ بالانفجار في دول جنوب المتوسط.
كما لابد من الإشارة إلى التنافس القائم بهدف جذب الاستثمارات الأوروبية المباشرة التي شهدت بقدرة قادر تحولا أساسيا في وجهاتها منذ فترة، لتصب في مصلحة دول وسط وشرق أوروبا. وإذا كانت التدفقات المالية (من استثمارات خارجية مباشرة ومحافظ مالية وانسيابات مصرفية) تزايدت في منطقة جنوب وشرق المتوسط في السنوات الأخيرة، على وجه الخصوص في كل من المغرب وتونس ومصر، إلا أنها تبقى متواضعة بالمقارنة مع أداءات دول «بيكو». لكن ذلك لا يمنع القول إن جاذبية هذه الأخيرة للاستثمارات الخارجية المباشرة لا تتم بصورة أتوماتيكية على حساب دول الجنوب، إذ النمو البطيء لتدفقات هذه الاستثمارات يعود بالدرجة الأولى إلى عوامل داخلية، غير المواكبة للتحولات العالمية، أبرزها البيئة الاقتصادية أو الترهل الإداري، عدم استقلالية القضاء، كذلك ضعف البنيات التحتية والتفاوت الحاصل على مستوى تأهيل اليد العاملة، تضاف إلى ذلك، عناصر عدة مثل الخلل في الاستقرار السياسي والاجتماعي السائد في الدول العربية المتوسطية، ماعدا استثناء أو اثنين. وينبع تخوف آخر يدخل في حسابات الربح والخسارة أيضا، من المنافسة الخارجية التي يمكن أن تحصل بين مجموعة «بيكو» والدول العربية المتوسطية. فالتنافس الأقوى سينحصر، حسب خبراء بروكسيل، في إطار الصناعات التصديرية لهذه الدول العربية، القائمة على السعر الرخيص لليد العاملة المحلية، وخصوصا في مجال صناعة النسيج. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هذه الدول المعنية سبق لها أن قاومت لسنوات عدة تحدي الصناعة الشرق أوروبية ولم تسمح لها بتسجيل أية نقاط على حسابها، لكن التكامل والأفضلية التي ستوفرها عملية التوسع الأخيرة من شأنهما تعديل هذا الميزان لصالح بلدان «البيكو». مع ذلك، يرى بعض الاقتصاديين المغاربة أنه على الدول العربية المتوسطية أن تعزز وجودها في كل المواقع التي تخولها لها الشراكة مع أوروبا وعلى جميع المستويات في أوروبا، خلافا لما كان يحصل في السابق. كما عليها عدم الاكتفاء بأن تدافع عن مصالحها دولة أوروبية واحدة، بمعنى آخر فرنسا. ويتعلق الأمر من الآن وصاعدا باعتماد إدارة سياسية للعلاقات أكثر منها اقتصادية بحتة. فاتحاد أوروبي من 25 دولة مسألة لا رجعة فيها؛ وعلى الدول العربية المتوسطية، شريكة أوروبا، أن تعي هذه الحقيقة وتعمل على أساسها من دون عقد ولا ندب على المستقبل ولا البحث عن وسائل لمواجهة هذا الواقع، بل درس إمكان الاستفادة مما هو مطروح والبحث عن شراكات مع تجمعات اقتصادية عالمية أخرى، والشروع في بناء السوق العربية المشتركة انطلاقا من إرساء قواعد مناطق للتبادل التجاري الحر بين الدول العربية. وهو أمر بدأ يشق طريقه بعيدا عن المنازعات السياسية القائمة.
التوجه نحو أميركا
في خضم هذا التخوف والقلق الحاصل، تحاول الدول المتوسطية، المغاربية منها تحديدا، التوجه أكثر فأكثر نحو الولايات المتحدة الأميركية. ويبدو ذلك جليا مع المغرب، الذي قطع شوطا لا يستهان به على طريق إقامة منطقة للتبادل التجاري الحر مع واشنطن. في التوجه نفسه، أسمع رجل أعمال جزائري كبير وفد أرباب العمل الفرنسيين الذين زاروا الجزائر في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي كلاما وصفه البعض بالتهديد: «إذا كانت أوروبا لن تساعدنا كما تعهدت ووسعت اليوم دائرتها على حساب اقتصاداتنا، فإننا سنتوجه بشكل نهائي نحو أميركا». هذا التحذير سبق أن سمعه مرارا في الماضي الدبلوماسيون الأوروبيون والفرنسيون منهم تحديدا. لكنه بدأ يأخذ اليوم منحى أكثر جدية بعدما اتضحت خطط الولايات المتحدة لإحداث اختراقات ليس بالنسبة إلى منطقة شمال إفريقيا، بل حيال باقي القارة السمراء.
من ناحية أخرى، يرى بعض المحللين الاقتصاديين أن الرابح الأكبر من عملية توسع أوروبا شرقا هي الولايات المتحدة. في هذا الإطار يعتبر مسئول ألماني أن دخول هذه الدول العشر الاتحاد وهي القريبة من واشنطن وسياستها يعني نهاية كل محاولة لأوروبا بإيجاد شخصيتها المستقلة وإنهاء تبعيتها في السياسة الخارجية والأمن. ويضيف هذا المسئول أن «الاختبار الأول سنراه في المواجهة مع العراق»
العدد 139 - الأربعاء 22 يناير 2003م الموافق 19 ذي القعدة 1423هـ