العدد 139 - الأربعاء 22 يناير 2003م الموافق 19 ذي القعدة 1423هـ

إعادة اختراع أزمة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الكلام الغاضب الذي صدر من الرئيس الأميركي ضد العراق قبل أيام من التقرير النهائي لكبير فريق المفتشين الدوليين هانز بليكس عن «اسلحة الدمار» يشير إلى احتمالات عدة: اولها ان واشنطن غير مرتاحة كثيرا للتقرير لأنه يعطي برأيها فرصة جديدة للنظام العراقي، وثانيها ان الكلام هو محاولة استباق للنتائج النهائية بالضغط على الدول الكبرى في مجلس الأمن، وثالثها انه كلام غاضب يقصد به تبرير سياسة طائشة للرأي العام الأميركي.

الكلام الغاضب للرئيس جورج بوش يقصد منه تحقيق ثلاثة أهداف:

الأول، الضغط على العراق. الثاني، الضغط على الدول الكبرى في مجلس الأمن. والهدف الثالث زرع الطمأنينة في الرأي العام الأميركي الذي بدأ القلق يساوره من سياسة «هجومية انعزالية» لا تتمتع بالتأييد الدولي.

يمكن قراءة الغضب الأميركي من خلال التصريحات البريطانية الرسمية عن المسألة. وملخص تلك التصريحات انه يجب على «المجتمع الدولي» ممارسة «المزيد من الضغط» على العراق.

ماذا يعني كلام ممارسة المزيد من الضغط؟ الكلام له أكثر من معنى فهو مثلا يشير إلى نوع من التجاوب العراقي مع الضغوط السابقة وفي حال استمرت تلك الضغوط يتوقع ان نشهد المزيد من التجاوب. وانه يعني مثلا رسالة غير مباشرة إلى الدول الكبرى المعنية بالموضوع العراقي وهي ان تلك الدول غير متجاوبة مع الضغوط الأميركية وهذا يعطي فرصة للنظام في بغداد للتملص وعدم الاستجابة الكافية إلى الضغوط.

«ممارسة المزيد من الضغط» تعني ايضا تأجيل الخيار العسكري مؤقتا في انتظار فرصة مناسبة تعطي الزخم للعملية الحربية في حال اعتمدت قرارا نهائيا. والقرار النهائي يحتاج إلى سلسلة اجراءات او معلومات أو مخالفات تعطي الزخم لمفعول 11 سبتمبر/ ايلول بعد ان فقدت حيويتها بسبب التقادم الزمني أو لاعتبارات عدة منها تلاشي التجاوب الدولي مع الغضب الأميركي ونهوض صحوة عالمية (في الشوارع والجمعيات الحقوقية) مضادة لاساليب الانتقام الثأرية (القبلية) التي تسيطر على اشرار الحزب الجمهوري الحاكم في البيت الابيض.

قراءة سريعة للاتجاهات العامة لاستطلاعات الرأي التي حصلت حديثا تشير في مجموعها العام إلى تراجع مؤشر التأييد الكاسح للسياسات الطائشة التي اتخذتها ادارة الرئيس بوش. فكل اسبوع تتراجع نسبة المؤيدين وينحسر الغطاء الشرعي الداخلي (الناخب الأميركي) بعض الشيء عن نسبة أعلى سابقة. المؤشرات عموما في حال نزول دائم وهذا يعني ان المبررات التي اعطتها ضربة 11 سبتمبر بدأت تفقد زخمها الداخلي. وإذا استمرت على هذه الحال سيتلاشى مفعولها الايجابي وستتحول إلى نقاط سالبة ضد حالات التجييش والتعبئة وإثارة الاحقاد العنصرية والدينية كما حصل اخيرا في بريطانيا. فبريطانيا التي تعتبر علمانيتها هي الأفضل في اوروبا وهي مثال يحتذى في ميله إلى احترام الاختلاف والتعددية بدأت تنحرف (تحت وطأة الاستعداد لشن حرب على العراق) إلى استخدام أساليب «الجمهورية الفرنسية» في ملاحقة الطلبة على اساس شبهة اللون والدين والثقافة والسحنة (شرق أوسطي أو متوسطي).

الولايات المتحدة كانت السبّاقة في إثارة سياسة فرز الالوان والاديان والثقافات بعد ضربة 11 سبتمبر حين قررت تشكيل وزارة للداخلية اعطيت صلاحيات استثنائية لملاحقة كل مشتبه في دينه ولونه وثقافته فارتكبت سلسلة مخالفات تشبه تلك الدول القمعية في بعض بلدان العالم الثالث. اليوم وتحت وطأة اختراع المبررات لسوق الناس إلى حرب لا تعرف حقيقة اهدافها ولا غاياتها (وهي غير شريفة ونبيلة في كل الحالات) باشرت بريطانيا باستخدام الاساليب «المكارثية» في ملاحقة الطلبة واستجوابهم عن طبيعة وجودهم في الجامعات ولماذا يدرسون ومن اختار لهم مادة دراستهم ولماذا يتخصصون في هذا الحقل العلمي إضافة إلى أسئلة عن أهلهم ووظائفهم واعمالهم واشغالهم وغير ذلك من اسئلة بوليسية لا معنى لها سوى إثارة المزيد من الكراهية وذلك دفعا للناس إلى التكور والتقوقع على انفسهم وإعادة التفكير مجددا في جنسياتهم وهوياتهم اللونية والدينية والثقافية.

الكلام الغاضب الذي تفوه به الرئيس الأميركي اخيرا ليس موجها ضد العراق والدول الكبرى فقط، انه ضد الرأي العام الداخلي الذي بدأ يفكر وبحدود نسبية بسيطة على مستوى مختلف من تلك الاجواء التي احاطت بالولايات المتحدة بعد ضربة سبتمبر. والكلام البريطاني عن ممارسة المزيد من الضغط على العراق يعني داخليا ممارسة المزيد من الضغوط على الجاليات العربية والاسلامية والافريقية والآسيوية التي تعيش أو تقيم أو تتعلم في الجامعات بحثا عن ذرائع جديدة لإعادة اختراع الازمة مع العراق وإعادة احياء نيران الكراهية في فتيل 11 سبتمبر بعد أن بدأ لهيبه ينحسر ويتلاشى.

الغضب الأميركي والانزعاج البريطاني يعكسان العنوان نفسه: إعادة اختراع الازمة بإعادة إحياء عناصر تفجيرها. والحرب في كل الاعراف والحالات ليست مجرد قرقعة سلاح وإنما هي أيضا قرقعة نصوص غاضبة لإثارة النفوس وتهييج الناس للموت في معركة تبدو أن اهدافها ليست بريئة وغاياتها ليست نبيلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 139 - الأربعاء 22 يناير 2003م الموافق 19 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً