العدد 139 - الأربعاء 22 يناير 2003م الموافق 19 ذي القعدة 1423هـ

إنصافا لجان بول سارتر

بقي سارتر ملتزما الحرية، جميع اشكال الحرية، خلال مسيرة طويلة، في حياته الوجودية، التي مارسها من دون كلل، عنوانه: الحرية. بقي كذلك حتى رمت سيمون دويوفوار، رفيقة دربه وفلسفته، وردة على ضريحه الذي ضمّ في حفرته ممثلا لفلسفة الموت وليس لممجّده، كما زعموا. لأن ممجدّي الموت، انتحروا في جونز تاون (طائفة هيكل الشعب)، انتحروا ذرافات ووحدانا، كما يذكر التاريخ، او انتحروا كفاشيين في حروبهم دولا ضد اخرى، لكن اهم ما في سارتر اخلاصه لثلاثة:

1- رفض المؤسسات.

2- رفض الزواح (المؤسسي).

3- رفض الانجاب.

فرفض التنظيم والمؤسسات، بحد ذاته، ثورة (كل شيء في الدول على هذا الاساس). ولأنه كذلك، لم يتفق سارتر مع اليسار، لكنه بلا ادنى شك اختلف مع اليمين، وان موقفه هذا تعبيرا عن رفض الاطر التنظيمية القمعية. بهذا المعنى، كان سارتر وجوديا إلى حد الفوضوية. لكنه انزل السياسة إلى الشارع وناضل نضالا مستميتا دفاعا عن حريات الشعوب على رغم انه كان منفردا وسط دائرة لهب مصوبة نحوه. وما رفضه لتسلم جائزة نوبل للآداب، سوى تجسيد لرفض المؤسسات والنخبوية فيها.

الا انه على رغم ذلك بقي مخلصا لرفيقة دربه سيمون. لكنه لم يتزوجها. ولم تطلب منه ذلك بعد لقائها المتواتر معه. عرفته فآمنت بفكره. ورفض الزواج يرتكز على رفض المؤسسات: أليس الزواج في الواقع مؤسسة بشرية صغيرة؟ وهذا يعني فيما يعنيه رفض الحب المزيف في عالم مزيف لذلك عبّر عن حبه لها بقوله الحب الجوهري او الاساسي. انه النكران لعلاقات انسانية تنتظم فيها الرتب والرواتب، بتعبير المؤسسات نفسها او التعبير العيشي للكلمة.

قاد سارتر فلسفته في «النفق» وحيدا، وعزاؤه الوحيد هو زوجته غير الشرعية بـ «التعبير المؤسسي» ايضا. ولم يكن ثمة من ضوء سوى نور عينه الوحيدة التي ابصر بها. كيف يمكن للمرء ان يرى بهذا العمق وبهذه السطحية في آن؟! والاصرار على عدم الانجاب هو التعبير الراقي عن ان الدمار محتم على كل شيء، وان الاخلاص للانسانية اطلاقا مهما بلغت في رقيها بالعلوم! لذلك اعتبرته الكنيسة «ابن الشيطان» ولعنوه!

لكنه اصر بعناد وتناقض على ان يسير في النفق معتبرا ان ثمة حقيقتين ملموستين في هذا العالم المظلم:

1- الموت (لا سبيل لدحضه مطلقا).

2- الحرية (ينبغي النضال لتثبيتها على سطح الكوكب).

هكذا دافع عن الموت نظريا باعتباره حقيقة مطلقة، كما خاض معارك كثيرة ضد اشكال القمع والعنف الآيلة إلى ضرب الحرية، اية حرية، سياسية كانت، ام اجتماعية (يذكر في هذا الصدد انه المفكر الوحيد الذي زار مصر، بعد الهزيمة مباشرة سنة 1967 وزار اسرائيل ايضا. ودعا العرب واليهود إلى العيش معا بسلام، وردا عن سؤال اجاب: قد تربح اسرائيل حربا واثنتين وثلاث حروب وقد تكسب تسع حروب. لكن يكفي ان تكسب مصر حربا واحدة ضد اسرائيل حتى تهزمها نهائيا) وعلى رغم ذلك، كان يفلسف التشاؤم، ويهدم اسس الشراكة البشرية «الآخرون هم الجحيم». كما وقف ضد التنظيم والتبويب باعتبارهما يختزلان التقدم الفعلي.

هذا الشعور الوجداني المميز، اوقعه في شراك مأساته وملهاته في آن! فالوجودية بعرفه هي فلسفة الشعور الحاضر او الآني! لذلك بقي يعتبر الماركسية «فلسفة العصر الراهن» التي بدأت تشيخ. وعلى رغم كل معارضيه بقي يمارس طقوس الحرية على مدى 74 عاما، التي دحضت «فلسفة العدم والانتحار»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً