العدد 139 - الأربعاء 22 يناير 2003م الموافق 19 ذي القعدة 1423هـ

مقالات ترصد الفقدانات عبر «تنُّور الكتابة»

ربما لا نضيف جديدا إذا ماقلنا أن الكاتب والباحث البحريني حسن مدن يعد واحدا من أهم كتاب الأعمدة اليومية في المنطقة... عبر حضور جاد ورصين أثبت من خلاله قدرة متميزة على الدخول في موضوعات عموده اليومي بأقل قدر من (الكلام) وبتكثيف واع للفكرة التي يريد إيصالها لقرائه صباح كل يوم في صحيفة (الخليج) الإماراتية . كتابه الجديد الذي أصدرته وحدة الدراسات بدار الخليج للصحافة والطباعة والنشر تحت عنوان (تنور الكتابة) حوى عددا من المقالات التي نشرها مدن على مدار عدة سنوات في الزاوية اليومية للكاتب (شيء ما) في الصحيفة المذكورة... اذ تنوعت مضامينها واتصلت بحياة مبدعين كبار... إضافة الى رصد وقراءة لحالات الفقدان العربية على أكثر من مستوى وصعيد.

ثمة مسح لذلك الفقدان (الفقدانات) يقارب بين المنجز والأثر الذي لعبه ذلك المنجز في الحياة العربية ضمن مستوياتها المختلفة... وإن ظل المنجز الثقافي حاضرا وعالي النبرة فيما تم رصده، باعتباره المجس الفعلي والحقيقي لأية قراءة تنشد النفاذ لعمق المشكلات وحركة الواقع.

يتصدر (طه حسين) كوكبة التغيير التي أسهمت إسهاما كبيرا في قلب عدد من المفهومات عبر سجالية ظلت في العمق من صميم المشكلات التي ظلت ملحة، انطلق من خلالها حسين وهو مستند الى ثقافة سمتها الانفتاح المعرفي الذي لا يؤمن بالحواجز والمتاريس ، فأوجد حالا من عمق المثاقفة بالجمع بين ثقافتين لكل منهما خصوصيتها وتمايزاتها... موجدا وقاذفا بأسئلته التي عملت عملها في رجرجة الثابت في الثقافة العربية مانحا إياها عمقا قادرا على الدخول في حوار يكتنز بالثقة قبالة ثقافة لم تخل من التعالي.

يقف مدن على مشروع طه حسين التنويري المتنوع بدءا بكتابه الأشهر (على هامش السيرة) الذي أعاد من خلاله لعبة السرد والحكاية بأسلوبه الفريد وقراءته النابهة عبر تجديد لغة الوقائع التاريخية لقارئ هو ابن زمنه، مرورا بكتبه الأخرى التي تكشف عن طاقة فكرية وأدبية استوعبت زمنها وانفتحت على أزمنة سواها بروح حريصة كل الحرص على المعرفة الخالصة والدخول في حوار يعطي لتلك المعرفة مدعاتها الأكيدة.

الكتابة دواء ضد السرطان

الكتابة عن سعدالله ونوس محفوفة بالأمل واليأس معا باعتباره واحدا ممن تبصروا طويلا في مستقبل هذه الأمة، كان مفعما بنعمة تحويل الرماد الى نار مسجرة على العذابات يقظا كأنه لم يعرف الى النوم سبيلا مقتحما كأنه منذور للمجابهات... وحين يتناوله حسن مدن يضعه في السياق الأهم من حركة الثقافة العربية على اختلاف اضاءاتها وعتماتها لم يلتمس الملاذات في فترة من فترات الردة والتراجع على مستوى الوجود العربي (في مناخ الإرتباك والحيرة والتردد والإحباط الذي أوجد تهيئة لمرحلة مابعد السلام، فإن سعدالله ونوس لا يجد الملاذ، كما يفعل الكثيرون، في تهويمات ذهنية تتزيا بموضات كثيرة، إن كان فيها قليل مشروع من رد الفعل على دوغما الماضي، ففيها الكثير من العبث واللاجدوى والاستقالة من الحياة، فإذا بالمثقف واهب الأمل في عهد مضى، منظّرا الليأس وللتصالح مع الخيبة ومبررا لها ، جاحدا لقيم حتى وإن أسئ التعبير عنها سابقا، فإنها كقيم مطلقة تبقى الوحيدة التي تؤمّن للعالم، وللإنسان فيه بدرجة أساسية، التوازن، وتهب الحياة مغزى ودلالة، وتضفي عليها النبل والحكمة).

الإمعان في دلالات حضور هذا الرجل في ظل (غياب مؤقت)... تستدعي إثارة حال الطمأنينة التي تتلبسه في ظل صخب موّار وصراخ لا يفهم منه شيء سوى انه كساح يدعي صفة وموهبة البرق... يوم التقيته في إمارة الشارقة على هامش توزيع جوائز الشاعر الراحل سلطان بن على العويس، بدا في حال من العزلة من دون تعال على أحد... ولم يكن المرض قد أخذ منه مأخذه ... ونمى الى سمعه أن معرضا للكتاب في سوق الحمرية بدأ نشاطه قبل يومين من وصول الوفود المشاركة في حفل توزيع الجائزة... ذهبت بمعيته... وبعد جولة في أجنحة المعرض توقف أمام كتاب لسيد قطب ، مازلت أذكر عنوانه ( المستقبل لهذا الدين)... وفي طريق العودة تحدث طويلا عن تجربة الراحل بكل احترام وتقدير مع إبداء ملاحظة أن معارض الكتاب في الوطن العربي أوجدت (قناعات تجارية) لدى الناشرين بتوجيه جل مايضخونه نحو الدين وخصوصا مع فترات المد الديني في بداية الثمانينات. يلتقط حسن مدن في مقالته عن ونوس عددا من شواهده النصية واضاءاته لأكثر من حال عايشها على رأسها المرض الذي نخر في جسمه ولم يمسس روحه بسوء... (ذات مرة فيما سياط المرض تنهال على جسده وتفتت الأمصال الكيماوية خلاياه قال سعدالله ونوس: «لقد اكتشفت دواء ضد السرطان. انه الكتابة».

كنفاني وخزانة الذاكرة

في الكتابة يتم الكشف عن الفارق بين الوعي المتحرك والمتحول وبين الوعي المؤقت والزائل... بحيث يتيح لك مثل ذلك الكشف السهر على قراءة مايحيط بك وماتقتنصه وتترصده باتجاه تأويل أو إعادة نظر في كل مايتعلق بموضوع الرؤية والرصد. من هذا المنطلق يقرأ حسن مدن غسان كنفاني، ويركز أكثر مايركز على روايته الأهم (رجال تحت الشمس)... في مقاربة تصل بالقارئ الى براعة تفكيك العمل الروائي والتوغل عميقا في تفاصيله على اختلاف محورية تلك التفاصيل في سياق الرواية، ليعرج على موضوعة الذاكرة التي تمترس فيها ولايزال كثير من الفلسطينيين الذين اكتووا بنار إبادتين إبادة المكان باقتلاع أصحابه ومحاولة إبادة الذاكرة من خلال (صناعة بارعة للإفك (...) وكان أحد أهداف اغتيال غسان هو الخلاص من واحد من أهم حفظة الذاكرة وإعادة صوغها وبلورتها في خطاب جمالي إبداعي يحيل الى أو يتكئ على مفردات بيئة الوطن الفلسطيني الذي أصبح محتلا).

ناجي العلي... الشاهد الأمثل

ذلك الذي حمل أيقونته شاهرا بها على الناس... الناس على اختلاف معادنهم الثمينة والرخيصة... ينام مطمئنا في هدأته إلا أن الأيقونة لم تغادر فعلها مستسلمة لعولمة ودعوات تستدرج ستة بلايين إنسان إلى محرقة لن تتفتق عنها موهبة التمييز بين انسان في كينشاسا وآخر في الجادة الثامنة بنيويورك. ناجي العلي الوجه الآخر الى المعاناة التي لاتفقد الإنسان طهره وتحمّلة وإصراره على المضي قدما نحو دروب يرى نهاياتها فيما يرى الآخرون أنها مجاهل لن توصل صاحبها الا الى الدرك الأسفل من التيه وجرف الخيبة.

يحضر طازجا كأن لم يغادرنا منذ أكثر من خمسة عشر عاما... يحضر في (تنور الكتابة) ربما اسهاما من كاتبه في تنشيط ذاكرتنا التي أصبحت ذاكرات... تنشيطها بحضور المحرضين على وجودنا، ولكي يكون هذا الكوكب قابلا لأن نحياه ونمشي في أسواقه.

ان الرصاصة التي اخترقت صدغه لم تسكت صراخه (نشيجه) نشيده الكوني الذي ظل ماثلا كالمرآة مع تراكم الخسارات... يقدمه لنا (مدن) كصورة صوت احتجاج لايحول القبر بينه وبين نفاذه الى آفاق الدنيا... واذا كان الفلسطيني شاهده في الأعمال التي قدم فلأنه الشاهد الأمثل على اختلال الموازين وقيام شريعة المصادرات وامتهان الإبادات في جنة أحالها المحتل الى تنور يعج بصراخ الضحايا واستغاثاتهم.

الكتاب الذي ضم عددا من المقالات عرج على كل من: تريم عمران، ابراهيم العريض، احسان عبدالقدوس، جبران، أمين الريحاني، خليل حاوي، بلند الحيدري، نزار قباني، بدر شاكر السياب، حمد الجاسر، لطيفة الزيات، قسطنطين زريق، مؤنس الرزاز، بهجت عثمان، قاسم أمين، علي الوردي، خالد سعود الزيد، عبدالله البردوني، الماجدي بن ظاهر، مبارك الخاطر، راشد الشوق، جمعة الفيروز، حسين المحضار، عبدالله العروي، محمد أركون، محمد الماغوط، الطيب صالح، نبيل سليمان، طلال سلمان، محمود درويش، نصير شمة، محمد حسنين هيكل، محمد شكري، نيلسون مانديلا و إدوارد سعيد





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً