العدد 137 - الإثنين 20 يناير 2003م الموافق 17 ذي القعدة 1423هـ

رواية الحزام أول إعلان عن استقلاليتي من هيمنة القبيلة

الروائي أحمد أبو دهمان لـ «الوسط»:

أجرى الحوار: حسن المصطفى 

تحديث: 12 مايو 2017

أحمد أبو دهمان، أديب سعودي مقيم في فرنسا، استطاع بروايته «الحزام» التي كتبها بالفرنسية وطبعتها دار Gallimard الباريسية عدة طبعات، أن يحقق شهرة وحضورا واسعا، ليترجمها الروائي ذاته فيما بعد للعربية. وترجمت بعدها الى الهولندية، وستصدر قريبا في ترجمتين ألمانية وإنجليزية. عن القرية وما تمثله من «ثيمة» أساسية في «الحزام»، وفي تكوين «أبو دهمان»، كان هذا الحوار:

* هنالك تركيز في الحزام على «القرية». هذه القرية التي حضرت بتفاصيل متنوعة، وبغنائية، وشعرية، حد الاحتفاء بها وبطقوسها وناسها، مستعيدا لتفاصيلها الدقيقة. هذه الاستعادة للقرية، هل هي استعادة من قرصة برد باريس، أم هنالك قرية مجهولة أردت البوح بها؟.

- القرية في «الحزام» ليست هي قريتي كما توقع بعض القراء، وإنما هي - لحد ما - محاولة لإعادة صوغ العالم، وهروب منه، ولم يكن أمامي لتحقيق هذا الحلم إلا أن انطلق من القرية، فقد ولدت من قرية كل ما فيها كان يغني، فالغناء هو سر حياتها. كانت قرية منتجة وعاملة، تستيقظ في الرابعة صباحا. وقد كان لدي يقين بأن القرية لا تنام، لأن كل ما نصحو عليه لا يشير إلى أنه نام لحظة واحدة: الأشجار، الآبار، الحقول، الأمطار، الطيور، الطرقات... لا توحي بأن النوم مر على القرية. من هنا كان المنطلق من هذه القرية، التي كنت فيها ابنا لكل الأمهات والآباء، وأعتقد أن «الحزام» نجح في تحويل هذه القرية إلى عالم من الشعر والمطر والحب للحد الذي وجد فيه القراء باللغة الفرنسية وطنا بديلا، وجدوا فيه أمهاتهم وآباءهم وأسرهم.

* هل «الحزام» بذلك، شكل من أشكال الهروب من ضغط الحياة اليومي والكوني والفردي، وهي بالتالي استرداد للماضي الدافئ، وقاية من مستقبل مجهول؟.

- ليس في «الحزام» جملة توحي بالهروب من هذا العالم، بل هي مواجهة وصرخة. صرخة احتجاج، وهي أول بيان أو إعلان عن استقلاليتي، عن ولادتي كفرد. استقلاليتي من هيمنة البنية القبلية التي تحيل الفرد إلى خلية صغيرة، لا تعطيه لحظة حرية واحدة. فهي خلية خاضعة لرقابة مطلقة من قبل كل الخلايا الأخرى. وهذه هي طبيعة العقل القبلي، وما يسمى في الدراسات الأنثروبولوجية بـ «الشخصية القاعدية».

* لكن هذا النسيج القبلي، أليس هو ذات النسيج الذي خلق الغناء واجترحه، وخلق هذا السهر الجميل والعالم الممتع للقرية؟.

- لم تكن القرية تخضع لهذه السلطة القبلية. كان للقرية نظامها الديمقراطي، والزراعي... كنا نقتسم كل شيء سواسية، وكان لكل فرد في القرية الحق في التعبير عن نفسه. وان كانت أمي علمتني من طفولتي الغناء والشعر، محاولة أن تصنع مني شاعرا، لأن الشاعر سيد القبيلة المطلق، وبالتالي كان الغناء مبرر الوجود، فمن يغني فهو الشيخ الحقيقي للقبيلة، كانت أمي تقول، لا تستطيع أن تنتزع الحق في الكلام إن لم تغن. كان هذا هاجسنا جميعا، أن نغني.

* الغناء بأي معنى؟ هل هو الفعل الصوتي للغناء، أم أنه كان ممارسة حياتية تنعكس على شخصية الفرد وسلوكه؟

- كان الغناء في البداية حقا لكل فرد في القبيلة، امرأة أو رجل، فقد كنا نغني معا، وفي كل مناسبة. فلم يكن هنالك نشاط إنساني من دون غناء... كنا نغني منذ الولادة حتى لحظة الموت. اذ أنني أتذكر أننا عندما كنا نحمل الموتى الى المقبرة، كان هناك ما يشبه الغناء، وكنا أطفالا نعتقد أن الموتى يتحولون إلى أغنيات، وأن هذه الأرض ما هي إلا حصيلة لكل هذا الغناء الذي مارسناه... فكنا نجده على كل الصخور والجبال والمزارعين والرعاة والعشاق... وكان لكل منهم غناؤه.

* ما أشكال هذا الغناء، وآلاته، وطقوسه؟.

- هنالك الكثير من الأنواع الغنائية. ففي الأعراس -مثلا- تسمع أكثر من غناء: عندما نصحب العروس من بيتها إلى بيت الزوج، وعندما تصل العروس نلتقي في رقصة جماعية اسمها «الدمة» أو رقصة أخرى اسمها «الدوارة»، ولكل منهما رقصها وغناؤها الخاص. بعدها نلتئم على العشاء ليس من أجله، بل من أجل الرقصة التي تليه «الخطوة» أو «الزحفة»... كان هناك «البرع»، وهو رقصة يمنية. لقد كان لكل طقس غناؤه: لسقي الأرض غناؤه الخاص، ولحرث الأرض، ولتسويتها، وعند بناء جدار، أو دفع صخرة..لقد كان لكل نشاط غناؤه الخاص.

* هل كان هذا الغناء حكرا على الرجال، أم للنساء نصيبهن منه؟

- كنا جميعنا نشترك في الغناء. فإذا كان العمل جماعيا كان الغناء جماعيا. النساء - أيضا - كان لهن غناء مختلف في الأعراس، قبل أن تتحول الأعراس إلى أعراس دينية، اذ كان الغناء مشتركا، وأذكر أنه كان هناك عدد من الرجال يحضرون الرقصات النسائية، وفي مواسم الحصاد كانوا يجتمعون عند صاحب المزرعة في بيته ويغنون سوية رجالا ونساء.

* هذا الغناء العفوي والجماعي، كيف كان يتم في ظل نظام قبلي تحكمه أعراف وتقاليد، وعلى رأسه شيخ قبيلة؟

- القبيلة بمفهومها السياسي الذي يختزل المجموع في شيخ القبيلة لم تتشكل إلا حديثا، بعد وصول الأجهزة الحكومية، قبلها كان شيخ القبيلة فردا كالآخرين، لا نحتاجه إلا في الضرورات القصوى، في حالات القتل والنزاع الشديد. يستوي في ذلك الجانب الديني، فلم يكن للإسلام ذلك الحضور الموجود الآن. كان الإسلام جزءا من حياة الناس، لكنه لم يكن حياة الناس كلها. أذكر كثيرا من الآباء والأمهات في القرية لم يكن يعرف «الفاتحة»، وبعضهم كان يقرأ «التحيات» في الركعة الأولى. وشاهدت في فترة متأخرة سيدة عجوز تصلي الفجر عشر ركعات، وفي كل ركعة كانت تجهر بالفاتحة. حتى معظم الرجال، لم يكن لديهم ثقافة دينية، سوى معرفة «الفاتحة»، وبعضهم كان يقرأ القرآن. أبي - أيضا - عندما تسلمت المصحف من المدرسة، كان لديه مصحف مخطوط، وكان يستطيع قراءته، وعندما جلبت إليه المصحف الذي أعطونا إياه في المدرسة، اكتشفت انه لم يستطع أبدا قراءته، فعرفت أنه كان يقرأ من الذاكرة. وكان إمام القرية - أيضا - يغني معنا، وكان يشاركنا هو وزوجته وأولاده وبناته كل شيء، ولم نكن نلجأ له في أي شيء، فقد كان يؤمنا يوم الجمعة، ويؤمنا في كل الصلوات، لكن لم أسمع خطبة جمعة واحدة تختلف عن سابقتها طيلة الطفولة، لدرجة أننا صرنا نحفظ الخطبة ونلقيها. فلم يكن للإسلام ذلك الحضور، كما هو في معظم أرجاء الجزيرة العربية، قبل فتح المدرسة وقبل وصول الدعاة إلى القرية، وقبل وصول الإذاعة والتلفزيون.

* كيف كان يمارس الناس نشاطهم في القرية؟ هل كان مقصورا على الزراعة والرعي، أم أن هنالك نشاطات أخرى يعمل بها الناس، ويمارسون الغناء عبرها؟

- الغناء ارتبط بالنشاط الزراعي والرعوي بالدرجة الأولى، وهذا النشاط كان يكفي لامتصاص الليل والنهار. كانت المرأة أما ومزارعة. وكثيرا من الأطفال ولدوا في الحقول، أو في لحظات كانت فيها المرأة تحلب البقر، أو تغذي الثور، فمعظمنا ولد في لحظات عناء وعمل، ما يعطي العمل قيمة موازية للغناء. إن الحياة الاقتصادية كانت قائمة على الرعي والزراعة، والزراعة بشكل أساسي، ولم يكن هناك للفلوس الحضور الطاغي، أي أنها لم تكن لها قيمة بشكل أساسي، الحضور الأساسي كان للأرض، وكل القيم الأخرى انبنت على الأرض والارتباط بها، قبل أن يتحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي. كان للمجتمع - لغة ثرية، ماتت فيما بعد، والذي حافظ على هذه اللغة في ذاكرتي، هي هجرتي إلى باريس، فلم أدخل في هذا النمط الاستهلاكي، فاحتفظت ببنية القرية، ولغتها، وغنائها، وكل تقاليدها القديمة، وهو ما حاولت أن أستعيده في «الحزام»، الذي كان احتجاجا على هذا النمط الاستهلاكي الذي حول القرية الى ما يشبه المقبرة.

* كيف كان الناس يتعاملون مع الأرض، هل من لغة جسدية خاصة، خصوصا مع النظر الى إشارتك لـ «الرجلين» في الحزام، والمشي حافيا عليها، والتشققات التي تتسرب منها مواد الأرض الى داخل الرجلين.

- تذكرني بالحذاء الأول الذي اشتريته لأبي فرفض أن يلبسه بحجة أنه سيفصله عن الأرض، التي كانت هي الحذاء والروح. من هم في عمري في القرية يعرفون أن لكل مزرعة وبئر اسمه، فقد كنا نقتسم الأمطار، ولكل مزرعة نصيبها، وأول من بذر في مواسم الزرع، هو أول من يسقي زرعه، وكل بئر مقسم لاثني عشر يوما، ولكل قطعة زراعية يوم أو نصف أو ربع يوم، باتفاق مكتوب في الذاكرة لا يخلفه أحد، وبالتالي لم يكن بيننا وبين الأرض أي انفصال، فقد كنا نحن الأرض، وكنا نعرف رائحة كل مزرعة، وجودتها، وميزتها. عدت إلى القرية قبل أسبوعين ولاحظت أن الآبار كثير منها قد جف، وانهارت كثير من جدران المزارع، ومعها انهار كل بناء معرفي.

* بأي معنى تشير إلى أن الأرض كانت تشكل بناء معرفيا، وخصوصا أن عالم القرية عالم بسيط؟

- هنا جانب مهم في السؤال، بما يسمى خطأ في الثقافات البدائية، فليس هناك ثقافة بدائية، فكل ثقافة جديرة بأن تقرأ وتحترم، وهذا جزء مما كرسته في«الحزام». فأنا أنتمي الى ثقافة شفاهية، وثقافة (بدائية) لأني أعتز بها، وكل ما استجد في العلوم الإنسانية يجب أن يخدم هذه الثقافة، يجب ألا نلغي أحدا. لا شيء يخجلني في هذا النص، ولا في هذه القرية، ولا في بنيتها المعرفية. كان كل رجل وامرأة في القرية يعرف أنه ينتمي الى نظام معرفي عتيق يضع لكل إنسان حدا في محاولة منع أي ظلم أو اعتداء أو امتهان للآخر.

* هذا النظام هل تشكل من تعاليم ينقلها ويعلمها الآباء لأبنائهم، أم هو عرف قائم وتقاليد يمشي عليها الجميع ويلتزمون بها؟

- نحن لا نعرف فقط حقوقنا داخل القرية، وإنما نعرف حقوقنا أمام القرى الأخرى. فلكل قرية حدودها وحقوقها. فأنظمة القرية كانت صارمة، وكل القرى متماثلة في هذا النظام، وهو نظام يمتد الى ما قبل الإسلام.

* كيف نوفق بين هذه القوانين الصارمة في القرية، وحال المرح والغناء والعفوية والرقص والبساطة التي كانت سائدة، ثمة تناقض أو تضاد بين الحالين؟

- أبدا ليس هناك أي تناقض بين حياة منضبطة يعرف فيها كل إنسان حقه وواجبه، وبين الفرح. فالفرح يختفي عندما تغيب الحقوق، ويحول الإنسان الى خلية، وعندما يصبح شيخ القبيلة الوحيد الذي يملك الحق في كل شيء، ويتحول المجموع إلى قطيع. ونحن لم نكن أبدا على هذه الشاكلة، وإذا كنا نغني كنا نحب، وكنا نستسقي، وكان المطر يستجيب، وكان شريكا لنا في هذه الحياة التي يصنعها. أما الآن فالجفاف بات يجتاح كل شيء.

* هل ترجع اجتياح الجفاف الى توقف الغناء وانحساره؟

- أنا أيضا أطرح هذا السؤال، والإجابة قاتلة، وان هذا الجفاف جاء نتيجة سوء معاملتنا للأيدي العاملة الأجنبية، التي حلت مكاننا في المزارع لاحقا، وهذه العمالة تعيش حالات من الظلم والكثير من سكان القرية - وبعضهم يمارس هذا القهر- يفسر هذا الجفاف بأنه نتيجة سوء معاملتنا لهذه الأيدي، ويسوؤني أنا شخصيا أن هذه الأيدي العاملة ليس بينها وبين الأرض أي رابط وأي غناء، لأنها لا تعرف تاريخ كل حجر وكل زاوية.

* كيف تفسر هذه الطاقة الكبيرة للغناء، لدرجة أن «حزام» لم يستطع تملك حقول العجوز بدراهم، فيما «الراوي» تملكها بغنائه؟

- الأرض كانت هي القيمة الكبرى بالمعنيين المعنوي والمادي، ولم يكن للمال أي حضور، وبالتالي هذه العجوز التي اختارت أن تمنح أرضها لهذا الشاعر، كانت وفية لهذه العلاقة بين الأرض والغناء ولم تنحن أمام دراهم حزام، وفضلت أن تحمي القرية من هذه القيمة التي اجتاحت كل شيء الآن. وهي صرخة ضد المال الذي تحول الى قيمة مطلقة بعد انهيار جدار برلين.

* إذن كيف تقرأ حال الضنك الذي اجتاح القرية، واضطر فيه والدك الى أن يبيع الخنجر على رغم ما له من معزة في نفسه، لشخص لا يحسن استخدامه والعناية به؟

- كان من السهل أن يباع أي شيء سوى الأرض. الخنجر الذي كان يملكه أبي كان من صناعة «الدعجاني» بالشرقية، وتمثل ماركة مشهورة، وكأن من يمتلكها يمتلك العالم في ذلك الوقت، لكن أبي كان بين خيارين: أن يحافظ على هذا الخنجر الذي يعني له اجتماعيا الشيء الكثير، وبين أن يشتري ثورا لحراثة الأرض، فاختار أن يبيع الخنجر - بألم طبعا - واشترى ثورا لم يزل في روحي إلى الآن، وهو موقف يمثل خيارا إلى الأرض





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً