العدد 137 - الإثنين 20 يناير 2003م الموافق 17 ذي القعدة 1423هـ

رواية «التاريخ السري» لدونا تارت

انتهت فترة الانتظار في 28 أكتوبر/ تشرين الاول اذ صدرت أخيرا الرواية التي تحوي أفكارا ساخرة ما كانت لتكتب أبدا، ناهيك عن كونها تطبع، وهي بعنوان «الصديق الصغير» لدونا تارت والتي تعد استكمالا لروايتها التي تحمل عنوان «التاريخ السري» التي ظهرت في العام 1992، وهي الرواية التي أحدثت ضجة كبيرة وأعطت كاتبتها شهرة أدبية بين ليلة وضحاها. وقد استغرقت كتابة الرواية الأولى سبع أو ثماني سنوات وهي رواية ممتازة بشكل مرعب، اذ مثلت باكورة إنتاجها. وقد بدا وكأن الكاتبة الرصينة البالغة من العمر ثمانية وعشرين عاما من مسيسيبي قدمت كل موهبتها وكل تركيزها في هذه الرواية.

يعرف الإفراط على انه دعاية مكثفة أو مبالغ فيها، ولا يستطيع أحد أن ينكر كثافة الإثارة المحيطة بدونا تارت في العام 1992. فقد كنت أعمل في مجلة Time Out في ذلك الوقت الذي كانت فيه بعض دور النشر تتسلى بنسخة مطبوعة من الرواية ذات المنظر المعتم، وكان المهتمون الوحيدون الذين نشروا القصة هم «شركة بنغوين»، وقد اختفت معظم النسخ الموجودة بعد ذلك بالتدريج، وقد قررت أن أطلع على الرواية في أحد أيام الإجازة، لا أذكر أية إجازة ولكني أذكر أني كنت جالسا في المقعد الخلفي في السيارة، متناسيا المشهد الفرنسي الجميل الذي يمر مسرعا من أمامي، غارقا في قصة أيديلوجيات تارت الإجرامية المرموقة.

يكمن الإفراط في الدعاية لأي رواية إذا لم تكن رواية جيدة، ولكن بالنسبة الى هذه الرواية فحتى النقاد الذين يرون أنها طويلة جدا ومملة في تمطيطها للحوادث، وفيها الكثير من التباهي ومليئة بالاختيال الفكري ما يجعلها غير جديرة بالثقة بشكل كبير، ولا يستطيعون القول انه ليس هناك جوهر لشهرة تارت المتنامية، على أي حال فقد كانت إنجازا مدهشا. وكان ظهور تارت ليس اقل من أن يكون غير اعتيادي، فعلى رغم صغر سنها استطاعت أن تقدم عملا جيدا بهذا الشكل. وتحمل تارت ذكاء استثنائيا في جسد فتاة خجولة تحب الكلاب وتعيش حياة راقية، لكن ذلك كله لم يمنعها من الانهماك في الكتابة، وقد أثرت بعض تفاصيل حياتها في القصة كرسم صورة لكلية هامبدن الموجودة في القصة اعتمادا على بعض تفاصيل الحياة الراقية التي تعيشها في بريطانيا.

كان ذلك هو المبدأ الرئيس، ففي عالم الشهرة السهلة ومشاهير الفن السريعين، أثبتت تارت مدى صعوبة كتابة قصة خيالية خالدة. وقد كان يهتف لها على أنها «كاتبة»حين كانت في سن السابعة عشرة من قبل أستاذها في جامعة مسيسيبي «ويلي سميث» الذي كان يؤكد لها بقوله: «ستكونين مشهورة في يوما ما، وستكتبين عن هذا اللقاء». ولكن حين سبقها زملاؤها مثل «بريت ايستون ايليس» ليصبحوا نجوما أدبية، في الوقت الذي كانت هي فيه غير قادرة حتى على تصوير نصوصها فإنها بالتأكيد كانت تتساءل عما إذا كانت شباكها المتجهمة ستجني أي ثمار وقد قالت مدعية «أراهن على حياتي ألا يكون هذا كتابا تجاريا».

آخرون مثل «غاي ماك اينيرني» و«جون جريشام» والملايين من القراء سارعوا الى معارضة ذلك، اذ قال ماك اينيرني بحماس «إن كتاب التاريخ السري يؤثر على القارئ بطريقة كالمؤامرة التي تبدأ بسحر ريفي ساذج وتنتهي تماما اذ يجب أن تنتهي، لقد كتبت تارت قصة قوية تنومنا مغناطيسيا». وقد رأى «آن ريس» تقاربا بين هذه الرواية مع رواية «مصاصي الدماء» التي ألفها والتي حققت مبيعات عالية «إن ما هو مرعب في قصة تارت الرائعة هو حقيقة كونها تدور حول الأرواح الدينوسوية (الشهوانية) للشخصيات الموجودة في القصة، وتدور حول دوافعهم الشريرة - ومحاولاتهم الأبدية لإطلاق سراح نوع من التلقائية الدينوسوية أو في بعض الأحيان المتعة الجنسية، هذا ما يجعلها مرعبة بشكل خاص». وقد بدا ايليس وكأنه متأسف على نجاحه فهو يقول «يجعلك ذلك تفكر في لماذا أنا؟ لقد كان هناك كتاب بارعون أكثر مني في الجامعة، وتارت واحدة منهم». ومثل معظم الكتاب الجيدين بدأت تارت في كتابة قصتها التالية بمجرد نشر روايتها الأولى «التاريخ السري» وقد تغيرت تعليقاتها على الرواية الجديدة عبر السنين، ففي العام 1992 كانت غير واضحة بخصوص قصة «الصديق الصغير» فهو كتاب غامض بشكل أكبر، ويدور عن كيفية معرفة الخطأ من الصواب، وفي برنامج على الراديو بث منذ خمس سنوات استجابت لطلب من أحد المعجبين عن موعد صدور روايتها التالية بقولها «قريبا جدا، قريبا جدا في السنة المقبلة». وقد كان المحيطون بها يؤكدون دائما أنها منشغلة بالكتابة وأنها لم تعرقل ولم تنضب أفكارها وبالتأكيد لم تستغرق في حياة الترف وإنها ليست منعزلة عن العالم بل إنها خجولة فقط، وقد قالت في إحدى المقابلات: «لا تزال اكبر متعة بالنسبة الي هي أن ابقى في البيت في سريري أقرأ. أفضل أن أقضي باقي حياتي أقرأ بدلا من أن أكتب كتابا آخر». في تلك السنوات العشر، أصبحت أسطورة «التاريخ السري» أكثر نضجا ومنمقة أكثر. وفي غياب معلومات مهمة عن تارت دارت حولها الكثير من الإشاعات التي تقود إلى ايليس الذي أخبر إحدى المجلات مرة أنها كانت تعيش بمزرعة في فرجينيا مع خرفان وماعز وصديق صغير جدا، ثم تراجع بعد ذلك وقال «بالتأكيد كنت ثملا عندما قلت ذلك اذ لم يكن بيننا أي اتصال بعد أن تركت تارت نيويورك». لقد أصبح أي عمل مرعب بطريقة غير واضحة ورفيع الثقافة يقدمه الطلبة البارعون يوصف بأنه «تارت الجديدة». بالتأكيد كان نجاحها هو الذي سدد ضربة لكتاب «ريتشارد ماسون» غير الموثق والذي لا فكرة فيه وهو بعنوان «الناس الغارقون» وقد حاول فيه أن يكتب قصة رومانسية من المفترض أن تكون خالدة ليتقدم العودة إلى القيم الأدبية القديمة. ولكن «التاريخ السري» ليس خالدا بل انه محدد للغاية في زمنه ومحيطه - وفي نهاية القصة يتم إسقاط الإغريق من جدول الرواية بسبب فقدان الاهتمام، كما نرى الكفاح لقيادة حياة قوية في مقابل خلفية من الإنجاز الضعيف، بالإضافة إلى ذلك تمتلئ الرواية بالمزاح المستمر الذي يعد صاخبا بمقدار ما هو معتم. هذا هو التعارض الحقيقي بين الثقافات وليس الورطة الابوللونية (مشتق من ابوللو اله الشعر والموسيقى والجمال الرجولي عند الإغريق) الدينوسوية (الشهوانية)، بل التفاوت بين ضوء النهار الساطع واللاعقلانية الملتوية السرية.

أيا كان الحكم النهائي عن كتاب «الصديق الصغير»، فان باكورة إنتاج تارت ستحتفظ بوضعها المميز فرواية «التاريخ السري» يمكن أن تثبت بشكل مثير للدهشة حتى القراءة الثانية، كاشفة الكثير من المتع العرضية في التراكيب والصيغة كما أن الخليط المتهور لنظام القصة ذو براعة عالية وتصوير دقيق لفسيفسائية الصداق، اذ يكشف الشخصية قطعة قطعة ما قد يؤدي الى أن تكون العينة الأخيرة مختلفة تماما عما كنت تتوقعه بداية.

وعلى رغم ذلك فإن المتعة الرئيسية في الرواية ليست في أصالتها، ولكن لأنها تذكر القارئ بكتب أخرى. نعم تفتل الإيحاءات وتحولها وتتعامل معها بخبرة ولكن ليس هناك أمر مدهش بشكل بعيد بخصوص الحال النفسية أو الموضوعات المطروحة أو النبرات السائدة.

المسار المنحني محتم اذ نعلم من الجملة الأولى من مات، الأبطال الرفيعو المقام الأبوللونيون جميعهم علماء إغريق تلوثوا بالدم (أولا بسبب حادثة القتل المشوشة المثيرة لأحد الفلاحين المحليين ثم تغطية جريمة القتل لطالب من زملائهم وهو «بني») ثم يصاب جميع الطلبة الذين يتعاطون المخدرات بالذعر بعد اختفاء «بني»، وتصور تارت الرعب السائد بجعل الليل حيا بأصوات تدفق المياه في الحمامات. إن أي شخص يقرأ هذا الكتاب سيستنتج أن تارت كاتبة أديبة غير اعتيادية، وقد تحدث الروائي «الان سيليتو» في إحدى المناسبات الأدبية قائلا: «لقد قرأت معظم الأعمال الأدبية الجيدة وأستطيع أن أقول الشيء نفسه عن رواية تارت، والتي تحمل ولعا خاصا بالقانونيين البريطانيين مثل «ديكنز» و«ستيفنسون» و«كيبلينغ» وكما تشير إليه القصة ثوماس دوكوينسي، وكل ذلك متأثر بأسلوبها النثري المتعالي والمتقن الذي يراه النقاد مملا.

فهل يمكن اعتبار رواية «الصديق الصغير» تكرارا لرواية «التاريخ السري» ؟ إن العالم الذي يدخله القارئ في الرواية الثانية يبدو بالتأكيد مألوفا بشكل كبير. فهذه رواية شيقة وإذا كنت تعتقد أن رواية «التاريخ السري» بطيئة بشكل يجعلها تنومك مغناطيسيا فان هذه الرواية أبطأ.

وفي هذا الجزء تعود تارت إلى طفولتها في مسيسيبي وهذا يعني التسكع في مقاطعة خضراء مرعبة، اذ تسلم تارت بقولها «كونك جنوبيا يعني أن يكون الرعب ملتصقا باسمك».

وهنا تلعب تارت حيلة الإثارة واللعب بالرواية الأدبية في وقت واحد اذ نرى الجو الذي يمتلئ بالطبقة الأرستقراطية البليدة، والسحر اللطيف الذي يرتكز تحته اضطراب عنيف مألوف بشكل ملح، كما تظهر هنا التوترات في العلاقات التكافلية بين البيض والسود، ونرى الحيات والنباتات المورقة الخضراء، ونوبات التدين والوجبات الكبيرة التي نعلم عنها، ثم تضفي تارت على هذا العالم الخالد نكهة حديثة مميزة. تدور القصة عن هاريت وهي فتاة فضولية في الثانية عشرة من عمرها تتوق إلى كشف الرعب المتعلق بموت أخيها الذي قتل حين كان صغيرا، وحين كانت هي في المهد، ولكن كل الكبار يرفضون التحدث عن الموضوع. هاريت وشريكها «صديقها الصغير» هيلي ليسا مثل سكوت وجيم في رواية «قتل الطائر المزيف»To Kill a Mocking Bird ولكنهما ولدان مؤذيان بغيضان.

والأمر المغري هوان نرى في هاريت الصغيرة المولعة بالكتب صورة المؤلفة الظريفة والمميزة والعنيدة، لقد نجحت دونا تارت مرة أخرى.

خدمة الاندبندنت - خاص بــ «الوسط





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً