كثر الحديث مؤخرا عن مبادرات عربية لاقناع الرئيس صدام بالتنحّي لتجنب الحرب على العراق. فالكل تقريبا يحاول افشال المشروع الحربي الأميركي، نظرا لما لهذا المشروع من انعكاسات سلبية على مصالح كل الدول تقريبا، العظمى منها والصغرى. حتى أن بعض التقارير كانت قد أشارت إلى أن روسيا وبالتنسيق مع واشنطن، كانت قد أعدّت لانقلاب عسكري على الرئيس العراقي، يقوده بعض الضباط العراقيين الموالين لموسكو، وذلك بالتنسيق مع المخابرات الروسية. لكن أميركا لم تعط الضوء الأخضر للروس، لان البديل المقترح للرئيس صدام ليس مقربا من أميركا. كما أن أميركا تعتبر، ان انقلابا برعاية روسيّة، قد يأتي بحكم موال للروس، وهذا بالطبع غير مقبول. كذلك الامر، يقال ان الضباط العراقيين كانوا قد اقترحوا على الروس أن يبدأوا بحركتهم الانقلابية بعد اطلاق الرصاصة الاولى للحرب. لكن الروس لم يوافقوا لأن هذا الأمر لا يعني تجنّب الحرب.
في بيروت (10-1-2003)، صرّح السفير الأميركي السابق كريستوفر روس، أن قرار الحرب على العراق لم يتخذ بعد. وإن ما تفعله الولايات المتحدة من حشد عسكري وما شابه، هو فقط للضغط على الرئيس صدام للامتثال لمفتشي الأمم المتحدة.
كذلك الأمر، وخلال محاضرة في جامعة سيّدة اللويزة - لبنان، صرّح النائب النرويجي رايس، انه لا يعتقد أنه ستكون هناك حرب على العراق، وقد وافقه رأيه هذا، العديد من المسئولين الأردنيين خلال زيارته الاخيرة للأردن. فهو يعتقد، أي رايس، أن من يريد الحرب، لا يُعلن خططه على الملأ مسبّقا. هذا رأي النائب رايس، لكن الأكيد من جهة ثانية، انه ليس من الضروري على أميركا ان تخفي مخططاتها ونواياها. فهي الأقوى مقارنة بالعراق. واعلان النوايا قد يكون جزءا من الحرب النفسية. فما يضر، أو يغير إذا عرف العراق النوايا الأميركية مسبقا؟ فهل هو قادر على تغيير المرسوم؟ بالطبع كلا.
إذا يتأرجح الوضع ما بين الحرب واللاحرب. وحتى انه وفي حالة اللاحرب، فإن أميركا سوف لن تقبل بأقل من تغيير النظام العراقي. والتغيير، سوف يعني أن أميركا ستنصّب من تريد على رأس السلطة في بغداد، وستعيد تركيب القوى العسكرية والأمنية على صورتها ومثالها. فماذا عن حالة الحرب؟ وماذا سيكون عليه وضع الرئيس صدام حسين؟ وكيف سيقاوم، وبأية طريقة؟ وكيف ستكون عليه صورة الحرب؟ وما هي الاستراتيجية التي سيعتمدها الرئيس صدّام ضد الأميركيين كي يصمد؟ هذا ما سنحاول الاجابة عليه في سياق هذا المقال.
كانت لدى العراق مدّة 11 سنة منذ الحرب الأولى عليه لتعديل عقيدته العسكرية. فهو كان مسرح الحرب الأولى الـ ما بعد - تقليدية بعد انتهاء الحرب الباردة. وفيه جرّب الأميركيون الأسلحة الذكية، واختبروا لأول مرة، تأثير التكنولوجيا على الشئون العسكرية. منذ هذه الحرب، بدأ العالم ينظر وبحذر، لما آلت إليه صورة الحرب الجديدة. فهي حرب سريعة، ذكيّة، وعن بُعد. وهي حرب تستلزم التعديل الجذري لكل ما عرفته الجيوش سابقا وفي كل المجالات. في التجهيز والتدريب والتشكيل. وهي حرب تستلزم نوعا جديدا من الجنود. جنود مثقفون ملمون بشئون الحواسيب، وقادرون على أخذ المبادرة والابتكار في ساحة المعركة.
كذلك الأمر، كان لأميركا من جهة اخرى الوقت الكافي لزيادة قدراتها العسكرية (11 سنة). وهي خلال هذا الوقت، خاضت حربين عصريتين، في كوسوفو أولا، وفي أفغانستان ثانيا بعد أن تعرّضت لحوادث 11 سبتمبر/ أيلول. واستطاعت خلالهما تعديل عقيدتها العسكرية بشكل يتناسب مع المخاطر الجديدة. فقد شكلت تلك الحربان حقلي اختبار لأميركا استطاعت خلالهما تصحيح الاخطاء. لكن أميركا تعرف أن الجيش العراقي، وعلى رغم المساعدة الصينية له في حقلي الاتصالات والدفاعات الجوية، يبقى جيشا ضعيفا على صورة ما كان عليه في العام 1991م، وحتى أضعف. فخلال فترة الاحتواء له، لم يستطع الجيش العراقي الحصول على أسلحة جديدة لتعويض ما خسره في الحرب الاولى.
إذا في ظل هذا الوضع، ما هي خيارات الرئيس صدام حسين؟
وجب على الرئيس صدام حسين معرفة كيف تقاتل أميركا. فهي تقاتل في ظل منظومة قتالية واسعة جدا، وتقوم على ما يأتي: قوى جوية لا مثيل لها في العالم. قوى بريّة، خفيفة، عصرية، مجهزة بأحدث العتاد. قوّات بحرية عائمة، تعتبر وكأنها بلدان متحركة في المحيطات والبحار. يضاف إلى كل هذا، امكان السيطرة على الفضاء.
تربط هذه القوى ببعضها البعض، وبالقيادتين السياسية والعسكرية، بواسطة شبكة من القيادة والسيطرةCommand & Control ترتكز على أحدث الاعتدة الالكترونية في العالم. تستعمل هذه القوى نوعا جديدا من الذخائر الذكية، والتي لديها قدرة تدميرية عالية جدا. هذا عن الطائرات من دون طيّار، والتي أصبحت تضاهي الطائرات التقليدية. كيف تقاتل أميركا من خلال هذه المنظومة؟
تبدأ أميركا عادة بالحملة الجويّة. من خلال هذه الحملة تهدف أميركا إلى ما يأتي:
1- تأمين السيطرة الجويّة، عبر تدمير الطيران العدو، وتدمير دفاعاته الجويّة.
2- تدمير مراكز ثقل العدو (كلها في نفس الوقت)، والمتمثلة بـ: مراكز القيادة، البنى التحتية.. إلخ. الهدف من ضرب كل مراكز ثقل العدو في نفس الوقت، هو لعدم السماح له بإعادة ترتيب وضعه.
3- عزل مسرح العمليات، ومنع دخول الطيران الغريب.
ماذا تؤمّن الحملة الجوية؟
تؤمّن الحملة الجوية الشلل الاستراتيجي. فهي تقطع الاتصالات ما بين القيادة العدوة ووحداتها. فيعود لا يعرف أحد، ماذا يدور عند الآخر، الأمر الذي يُسهّل الحرب النفسية. بعد تأمين الشلل الاستراتيجي، يصبح المسرح مفتوحا لتحرّك القوى البرية، ضمنا القوات الخاصة والتي تعمل خلف خطوط العدو. تدور كل هذه الأمور، وأميركا مسيطرة على البحار، الفضاء وعلى المعلومات Information Dominance. بعد هذا العرض، نتساءل، كيف للرئيس صدام الصمود؟
إذا أراد الرئيس صدام الصمود، وجب عليه العمل من ضمن استراتيجية كبرى تستطيع التقليل من هذا السبق الأميركي عليه. فهو لا يضاهيها تكنولوجيّا، ولا يجاريها في القدرة على المناورة، على رغم أنه يقاتل في الخطوط الداخلية. وهو لا يستطيع منعها من استعمال دول المحيط. وهو يعرف أن اللوجستيّة الأميركية لا تنضب. في هذا الوضع، يمكننا القول والاستنتاج، ان على الرئيس صدام حسين اعتماد مبدأ الحرب اللاتماثلية Asymmetric. من الضعيف باتجاه القوي، بشكل ان يتجنب الضعيف نقاط القوّة لدى العدو، والتركيز على نقاط ضعفه. لكن كيف؟
عامل الوقت: تريد أميركا حربا قصيرة، سريعة. وجب على الرئيس صدام حسين العمل على تطويل الحرب قدرالامكان.
العامل التكنولوجي: تتفوّق أميركا على العراق تكنولوجيا وبفرق شاسع جدا. وجب على الخطة العراقية ان تقوم على مبدأ التقليل من أهمية هذا العامل.
عامل الخسائر البشرية: لا تحتمل أميركا خسائر بشرية كبيرة، وذلك بعكس العراق. يجب أن تكون الحرب مكلفة لأميركا من الجهة العراقية.
كيف يمكن لصدام
إطالة الحرب؟
إذا قاتل الرئيس صدام كما قاتل العام 1991م، فإن الحرب سوف لن تدوم سوى أيام معدودة. لذلك وجب عليه عدم الاعتماد على الحرب في الصحراء، أو في المناطق المكشوفة. فمثل هذا النوع من الحرب يتطلب قوى جو لتدعم المناورة. كما يتطلب سلاحا مدرّعا يضاهي في تدريعه وتسليحه وتجهيزه ونوعيته الدروع الأميركية. وكل هذا غير متوافر لدى العراق. من هنا، أصبح من الواجب الاعتماد على حرب من نوع آخر، قد يكون «مبدأ الدفاع الثابت» في مناطق محددة تعتبر حيوية للعملية الأميركية.
إن النجاح في إطالة الحرب أيضا، يتطلب المحافظة على القوى. والمحافظة على القوى، يتطلب اخفاءها عن عين السلاح الأميركي. والاخفاء قد يكون عبر نشر هذه القوى والعتاد على مساحات واسعة، أو عبر تمويهها وتحصينها ضمن ملاجئ تحت الأرض.
إذا أراد الرئيس صدام الاستمرار، وجب عليه العمل على الحفاظ على قواته بعد انتهاء الحملة الجوية، وذلك كي لا تحقق أميركا الشلل الاستراتيجي. والحفاظ على هذه القوى بعد الحملة الجوية، يوجب تأمين الاتصال بها بشكل مستمر. وتأمين الاتصال يعني تأمين الوسائل والبنى التحتية اللازمة. فهل هذا متوافر؟
من الضروري أيضا العمل على إبقاء وحدة هذه القوى بعد انتهاء الحملة الجوية. ووحدة القوى تأتي عبر مستوى المعنويات لدى الجيش العراقي، وإلى أي مدى هي مخلصة للرئيس صدام في حربه ضد أميركا.
كيف يمكن لصدام التقليل من أهميةالعامل التكنولوجي؟
يبدو هذا الأمر من الأمور الصعبة. فالتكنولوجيا الأميركية، هي لكل الأوقات والظروف، وخصوصا المناخية. تقل أهمية التكنولوجيا في الأماكن السكنيّة. فالقنابل الذكيّة، قد تستعمل في العراء بشكل أسهل منه في الأماكن المأهولة. فأميركا، وحتى ولو كانت درجة الدقة عالية، ستتريث في استعمال القنابل الذكية ضمن الأماكن المأهولة، لأنها قد تقتل الكثير من المدنيين. وقتل المدنيين الأبرياء، قد يحرّك الرأيين، الأميركي والعالمي. كما أن اعتماد مبدأ الدفاع الثابت، قد يعني أن القتال سيدور في أماكن يمكن الدفاع عنها. وهذه الأماكن قد تعني المدن، الكبيرة منها والصغيرة. في مثل هذه المسارح، تتعادل القوى تقريبا. لماذا؟ لأن حرب المدن هي من أصعب الحروب على الاطلاق، تقل فيها أهمية التكنولوجيا المتقدمة، وتكون الأسبقية للعراق، لأن قواه تعرف المدن جيدا، كما أن السكان هم موالون لها وليس للأميركيين. في حرب المدن، تقل أهمية قوى الجو، باستثناء الطوافات. لكن استعمال الطوافات، قد يجعلها هدفا سهلا للصواريخ القصيرة المدى، وذلك بعكس الطائرات النفاثة.
كيف يمكن لصدّام استعمال
عامل الخسائر البشرية؟
إن استعمال مبدأ الدفاع الثابت، يعني تمركز القوات العراقية في أماكن يمكن الدفاع عنها والصمود فيها. لذلك وجب اختيار الأهداف بشكل أن تمر فيها القوى الأميركية بشكل اجباري نظرا لأهميتها، كحقول النفط مثلا. والمرور الاجباري فيها، يعني التماس مع القوات العراقية. والتماس، قد يعني المزيد من الخسائر البشرية الأميركية (بالطبع إذا أراد العراقيون القتال). هذا مع العلم، ان الأميركيين يفضلون عدم التماس مع العدو في حروبهم، وذلك بسبب تفوقهم التكنولوجي. وجب على العراق الاكثار من هذه النقاط الاجبارية، للاكثار من التماس، بهدف رفع نسبة القتلى في الجانب الاميركي. وقد يجعل هذا التكتيك، الحرب أطول ايضا، فيضيف عاملا ايجابيا على الحرب كلها. لا يجب هنا اغفال عامل أسلحة الدمار الشامل، والتي قد تستعمل تكتيكا ضد القوات الأميركية. أو ضد مناطق قد تريد القوات الاميركية الدخول إليها، وذلك لجعلها غير آمنة لهذه القوات، أي «تكتيك المنع والحرمان» Area Denial. وقد تكون العاصمة بغداد مقياس النجاح لكل من الرئيس صدام، كما للأميركيين. فإذا استطاعت أميركا الدخول إليها بسرعة، هذا يعني انتهاء النظام. والعكس قد يعني أن استراتيجية صدّام قد نجحت تقريبا. فلننتظر
العدد 136 - الأحد 19 يناير 2003م الموافق 16 ذي القعدة 1423هـ